من دفتر الوطن

الثعلب يعظ

| حسن م. يوسف

صحيح أنني بقيت مكتوماً لا وجود لي في سجلات الدولة نحو تسع سنوات من عمري، حيث أستطيع أن أزعم، مثل بعض المراهقين العجائز، أنني أصغر من عمري المدون في بطاقتي الشخصية ببضع سنوات! لكنني سأحترم موظف النفوس الذي شلحني في الفاتح من شباط قبل سبعين عاماً. والحق أنني خلال هذا العمر، الذي امتد بي أكثر مما ينبغي، رأيت وسمعت الكثير من غرائب وعجائب إخوتي من بني البشر وقد خاب أملي بهم لدرجة أنني صرخت مراراً مثل الموسيقي الزنجي أوسكار ليفانت: «أوقفوا الكرة الأرضية عن الدوران، أريد أن أنزل!»،
خلال نصف قرن على جبهة الحروف رأيت وعرفت الكثير من الأشياء التي أود كثيراً لو أنني لم أعش لأراها وأعرفها. رأيت الأخ لا يسرق أخاه فحسب، بل يقتله أيضاً ويأكل لحمه نيئاً!
رأيت العدالة تتخلى عن ميزانها الشهير، وتتمسك بالخرقة التي تغطي عينيها، لا حباً بالحياد بين الأطراف المتنازعة، بل خوفاً من رؤية ما يجري في الواقع حولها.
رأيت القانون يتحول من مجموعة قواعد وأسس تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، إلى شبكة لا تصطاد إلا صغار الأسماك البائسة.
رأيت الديمقراطية تنقلب من حق جميع المواطنين على قدم المساواة في ممارسة إرادتهم الحرة لتقرير مصيرهم السياسي، إلى علبة محارم كلينكس تسحب منها أميركا لتنظف يديها كلما اتسخت بدم شعب من شعوب العالم!
رأيت الكذابين يحولون الحب، من شبه صلاة للجمال، يعرف من خلالها المحب ربه، ويكتشف في ضوئه فرادة إنسانه، وجوهر وجوده، إلى مجرد قناع مدعوم بالعبارات الرومانسية المنسوخة والابتسامات العريضة المزيفة!
رأيت تجار الأوهام ممن لا علاقة لهم بالحقيقة ولا بالواقع، يفتتحون كلامهم ويزركشونه على الطالعة والنازلة بعبارة: «في الحقيقة والواقع».
رأيت الرشوة في يد المرتشي وهو يدسها في جيبه متلفتاً كلص، وشاهدته يهوي من أعالي إنسانه الفريد، إلى مجرد مخلوق مكرور، وإضافة نتنه إلى المجرور!
رأيت من يخجلون من الانتماء لأمتهم، يغطون سلوكهم المتفرنح بالحديث الطنان عن حب الوطن فقلت في سري: «المبالغة حصان الكذاب، وأخطر الأكاذيب تلك التي تسير على ساقين».
رأيت الكثير من المخازي التي يشيب لهولها الولدان. وسمعت مساخر كثيرة، لعل أعجبها حديث رأس إمبراطورية الشر ترامب، صاحب الجزة الذهبية، عن الحرية وحقوق الإنسان! سمعت العاهرات يتحدثن عن الشرف، والقتلة يدعون للتسامح! والتجار يصفون المال بأنه «وسخ الدنيا»!
لكن لا شيء من كل ما سبق هزني واستفزني أكثر من استشهاد مشعل الحرائق المدعو فيصل القاسم بمقولة مارتن لوثر كنغ: «علينا أن نتعلم كيف نعيش معاً كالإخوة، أو نهلك معاً كالحمقى»!
صدق أحمد شوقي إذ قال: «بَرَزَ الثَعلَبُ يوماً / في شِعارِ الواعِظينا / فَمَشى في الأرض يَهذي/ وَيَسُبُّ الماكِرينا / مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يوماً / أن لِلثَعلَبِ دينا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن