سورية.. الخارطة الداخلية
يظهر الإرباك كمعلم إقليمي لجميع التطورات المرتبطة بالأزمة السورية، فالحدث السوري تراجع إعلاميا كدليل مبدئي على التحول باتجاه نهاية التصعيد، لكن الاشتباك السياسي حاضر مع عدم قدرة النظام الدولي على الإمساك بعوامل حل الأزمة، ويعزز هذا الأمر الحذر الإقليمي من الطبيعة الجديدة للأزمة السورية، فهي تتجه من الصدام العسكري نحو معركة سياسية اقتصادية، ومن نقطة توتر دولي إلى صراع أعمق يرتبط بالنماذج الدولية المطروحة، ففتح معبر نصيب كمثال لما يحدث، عبر عن انفراج لم يحمل حتى اللحظة أي تطور في العلاقات الإقليمية لسورية.
عملياً فإن دمشق التي تبدو مرتاحة لطريقة إدارة الأزمة بعد تخفيف الأعباء العسكرية؛ تواجه على مستوى آخر اختباراً في قدرتها على استثمار خفض التصعيد لإنعاش الواقعين الاجتماعي والاقتصادي، وفي الوقت نفسه تظهير عملية بناء سياسي مختلف يُمكنها من الإمساك أكثر بأي عملية تفاوض قادمة، وهذا الاستحقاق سيفتح مجالاً لصياغة علاقاتها الإقليمية بشكل مختلف تماماً وخصوصاً مع دول الجوار الجغرافية، فمعاركها الدولية غدت أكثر ارتباطاً بواقعها الداخلي رغم كل ما خلفته الحرب من دمار.
ضمن الاستحقاق الداخلي هناك حالة تنافس لا تبدو واضحة حتى اللحظة، فالخروج من الحرب لا يقتصر على الأثمان الاقتصادية بل أيضاً على طبيعة التوجهات الداخلية التي يمكن أن ترسم عميقا في الإستراتيجيات العامة لسورية، ومن هذا الباب تحديداً يبدو التفاعل الواضح مع نوعية الاقتصاد القادم، والآثار الاجتماعية التي خلفتها الحرب، ويمكن ملاحظة أمرين أساسيين:
– الأول أن مسألة العلاقات الإقليمية لسورية مرتبطة بملف النازحين، ورغم أن هذه المسألة تخضع لضغوط دولية، لكن الوجه الآخر لها متعلق بنوعية التنمية التي ستخوضها سورية، وبالقدرة على إدارة الملف ليس لدعم الاستقرار فقط، بل في ترسيخ «علاقات تنموية» إن صح التعبير.
عند الحديث عن «علاقات تنموية» فهذا الأمر يعني بالدرجة الأولى بيئة قادرة على التفاعل مع مرحلة ما بعد الحرب، حيث يبدو المجتمع في عمق هذه العملية وذلك بغض النظر عن أي سياسات حكومية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو حتى السياسي الذي يتناول كل جوانب الأزمة، فالعلاقات التنموية مرتبطة بإعادة لم شمل السوريين بين الداخل والخارج بالمعنى العميق، وليس فقط بإعادة اللاجئين فيزيائيا إلى الوطن، فهي إستراتيجية ارتباط تجعل من الضغوط الدولية أمرا خارج السياق وغير قادر على التأثير القوي.
– الثاني مرتبط بالحديث عن إعادة الإعمار، فهذا الأمر الذي يبدو استراتيجياً لأنه ربما سيشكل علاقات سورية مع العالم، وتوجهاتها السياسية المستقبلية نتيجة التكلفة العالية للإعمار، لكن الأرقام المطروحة تجعل من هذه العملية شأناً صعباً ومن المستبعد انخراط الكثيرين فيه من دون أن يؤثر في شكل سورية التي دافع عنها شعبها كنموذج اقتصادي يعاكس عمليات التجزئة والنهب.
يتطلب الإعمار إدراكاً خاصاً بأن سورية لن يُقدم لها «مشروع مارشال» كما حصل لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فالهبات والمنح والقروض لا يصعب توفيرها فقط بعد الاستنزاف المالي لكل المنطقة؛ إنما لا يمكن لمن يريد فرض نموذجه عبر البنك الدولي أن يترك السيولة المالية تتسرب لسورية عبر استثمارات إقليمية ودولية دون فرض شروط «إفقار» على الدولة والمجتمع.
يفرض «إعادة الإعمار» إرباكاً إقليمياً لأن كل الدول لا تستطيع تقدير ما الذي سيحدث، وما ميزان القوة الاقتصادية في سورية مستقبلاً، وبالتأكيد فإن «الإعمار» لن يكون منحة بل درب طويل وشاق، وهو استحقاق على مستوى الأزمة السورية عموماً، فالمجتمع في النهاية هو الشريك الذي يمكن الاستناد إليه بغض النظر عن كل القراءات سواء للبنك الدولي أو لمنظمة «الإسكوا».
| مازن بلال