رغم كلّ ما يتبجح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من قوة على إدارة الملفات التي تتمثل أولاً وقبل كلّ شيء في العقوبات التي يهوى فرضها على الشعوب والبلدان فإن حركة التاريخ سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها تبرهن على أنه لن يمسك بناصية الأمور لفترة طويلة وأن التاريخ سوف يذكره كأحد الأشخاص الذي سرّع بوصول الغرب إلى نهاية هيمنته على العالم والذي ساهم من حيث لا يدري بولادة عالم جديد لا يد له فيه ولا سمعة ولا رأي ولا قبول أبداً.
فالانتخابات الأميركية أعادت نانسي بيلوسي، تلك المرأة المتوازنة، إلى الواجهة والتي زارت سورية، رغم كل الحظر الذي كان مفروضاً على سورية في ذلك الوقت، والتي تفكر بعقلانية وتتصرف بحكمة، كما أن الانتخابات الأميركية شهدت صعوداً ملحوظاً للنساء بما فيها نيل سيدتين مسلمتين إحداهما من أصل فلسطيني والأخرى محجبة مهاجرة من الصومال مقاعد في مجلس النواب للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة.
وقد تزامنت هذه الانتخابات مع فرض ترامب عقوبات على إيران وليس في هذا جديد لأن إيران كانت خاضعة للعقوبات الأميركية على مدى عقود ماضية منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، ولكنّ الجديد في الأمر هو أن دولاً أوروبية مهمة وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا ترفض هذه العقوبات وترفض وقف التعامل مع إيران، كما أنها ترفض الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. إذا أضفنا إلى هذه الدول عزم روسيا والصين والهند ودول أميركا الجنوبية على استمرار التعاون مع إيران فإننا نكتشف أن ترامب قد عزل الولايات المتحدة عن العالم ولم يتمكن من ضرب العزلة التي يريدها على إيران. كما أن الافتراق بين أوروبا والولايات المتحدة حول الاتفاق النووي الإيراني وحول التعاون مع إيران يعتبر سابقة لتحرير أوروبا نفسها من الهيمنة الأميركية التي فرضت على أوروبا مواقف لا تتناسب مع مصلحة الشعب الأوروبي وموقعه الجغرافي وعلاقته مع الدول الجارة ومنها الدول العربية، وهذا الاختراق لا يستهان به أبداً في إعادة تشكّل العالم على أسس ومعطيات جديدة بغض النظر عن المكابرة الترامبية والجمل والتعابير المهولة التي يطلقها والتي تكاد تكون بعيدة كل البعد عن الواقع أولاً وعن أي مضمون أو محتوى ثانياً. إذا ما أضيف إلى هذه العوامل الخطوات المتتابعة والمدروسة في التعاون والتشبيك بين روسيا والصين والذي يشمل مختلف المجالات وعلى مدى عقود قادمة بين البلدين نتأكد حينئذ أن أولادنا سيعيشون في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي نشهده اليوم وأن إرهاصات اليوم سوف تترجم واقعاً مختلفاً تماماً عمّا يتبجح به ترامب وعمّا يحلم به أعوانه من الصهاينة في الولايات المتحدة وداخل الكيان الصهيوني نفسه.
وفي مواقع أقرب إلى حيث نحن جغرافياً فإن التطبيع المجنون والساذج وغير المدروس بين حكام الخليج والكيان الصهيوني هو جزء من ذلك الزبد الذي يميّز المرحلة الترامبية والذي سوف يذهب جفاء معها، وأما ما يبقى في الأرض فإنه الحقوق الثابتة والمشروعة وغير القابلة للتفريط للشعب الفلسطيني، هذه الحقوق سوف تكون البوصلة الأساسية لأبناء هذه الأمة الشرفاء الحريصين على مستقبل وكرامة أبنائهم وأحفادهم. وتغييب دول الخليج في غياهب التطبيع سوف يعيد للعرب صفاتهم الحقيقية وسوف يطهرهم من الصفات الخليجية التي حاول الغرب أن يسبغها على جميع العرب في كل بلدانهم. فقد كان التحدي الأساسي لنا كأساتذة جامعات درسنا في الغرب وحاضرنا في جامعاته ومؤتمراته أن نميّز أنفسنا عن دول الخليج وأن نعبّر عن ثقافتنا المشرقية بعيداً عن ثقافة البترودولار، ولكنّ الغرب تعمّد خلال العقود الماضية أن يعتبر الخليجي الذي يملك النفط والمال هو الصورة الوحيدة للإنسان العربي وذلك لإغفال كلّ المساهمات الحضارية والتاريخية والدينية والثقافية واللغوية التي قدّمها العرب على مدى قرون للإنسانية جمعاء.
لذلك فإن تدحرج كرة الثلج وانسياق البلدان الخليجية واحداً تلو الآخر في مستنقع التطبيع يجب أن يكون أخباراً جيدة للعرب الحقيقيين الذين طالما أرهقتهم المفارقة بين المؤمن بالحقوق والتاريخ وبين المستهلك للمال والنفط دون أي إثر إيجابي يذكر سواء على العرب الآخرين أو على القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. إذ أين الصروح التي بناها العرب في بلدان أشقائهم وأين المساعدات المتميزة التي أنقذت طموح الفلسطينيين للاحتفاظ بمنازلهم في القدس وللحفاظ اليوم على مؤسسة الأونروا على سبيل المثال لا الحصر؟ أي أين المساهمات التي غيّرت المعادلة إيجاباً بالنسبة للفلسطينيين أو للعرب حين كانت دول الخليج مزدهرة وتجني أموالاً طائلة من ثرواتها النفطية؟ وما الفرق اليوم إذا ما سارت هذه الدول مجتمعة كلها من دون إرادة نحو التطبيع؟ الفرق الوحيد هو أن الأموال التي كانت تصبُّ في ميزانيات الولايات المتحدة والدول الغربية بدعوى شراء السلاح وتذهب بعدها إلى الكيان الصهيوني ستذهب ربما مباشرة إلى هذا الكيان وسيشعر هذا الكيان أنه تمكن من تثبيت معادلته في الإقليم وأنه ليس العدو، على حين يعمل ليلاً نهاراً لإذكاء نار الحقد والضغينة والمقاطعة ضد الجارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والسؤال الأهم في هذه المرحلة هو ماذا نحن فاعلون كعرب مؤمنين بهويتنا وتاريخنا وحضارتنا ومستقبل قضايانا؟ إذ لم تعتمد العروبة يوماً ما إلا على الدول التي هي مهد وموئل وأمل هذه العروبة، ولم تعتمد العروبة إلا على العرب المؤمنين حقاً بذاتهم أولاً وتاريخهم وأحقية قضاياهم. والمعيار ذاته مازال قابلاً للتطبيق اليوم ولكنه يحتاج إلى رؤية مختلفة وعمل مختلف وطريقة تفكير بناءة تعتمد الخطط على المستويين المتوسط والبعيد.
لقد ألحقت ثقافة البترودولار والإعلام الخليجي بالغ الضرر بوعي الأجيال العربية وخاصة منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم وأحدثت شرخاً في التفكير العربي وحتى في طريقة التعليم والعمل والحياة وكان هذا كله مدروساً ومقصوداً. فهل يحق لنا اليوم أن نحتفي ببداية رفض كلّ هذا المنتج المعادي لقيمنا العربية مع كلّ توابعه والتمييز بين أنفسنا وبين هؤلاء الأذلاء الرجعيين تمييزاً لا يعتريه أي لبس ولا غموض؟ لقد ساهمت ثقافة البترودولار بنشوء الطبقات الحديثة النعم في معظم البلدان العربية، كما ساعدت على انتشار الفساد وتشويه ثقافة العمل الجاد لدى جيل الشباب أملاً بالغنى السريع الذي لا يعتمد التعليم والاجتهاد في العمل والدأب وسيلة لتحصيل الثروات، كما ساهمت في إغفال الأجمل في موروثنا الإعلامي والثقافي حين استبدلته بالبرامج المبتذلة التي تبنتها معظم وسائل إعلامهم لإضاعة وقت الشباب وتغذية عقولهم بأحلام واهمة غير قابلة للتطبيق. الأمل اليوم هو أن يساهم هذا التطبيع الأحمق والمدان مع الكيان الصهيوني في غسل براثن هؤلاء عن جسد هذه الأمة وأن نشهد مرحلة جديدة تعيد إرساء القيم الحضارية الحقيقية لكلّ المؤمنين بأمتهم وبقضاياهم والمستعدين فعلاً للعمل وتطوير مجتمعاتهم وبلدانهم على مدى عقود قادمة كي يخوضوا معركة التحرير بأنفسهم، هذه المعركة التي تطهرهم أولاً من آثام ثقافة البترودولار المخجلة كما تعدهم وعد الحق بتحرير الأرض والإنسان، حينذاك فقط سندرك نعمة عودة العروبة إلى أبنائها الشرعيين وعودة القضايا العربية إلى حضن الحريصين عليها فقط والمؤمنين بعدالتها والمستعدين للتضحية من أجل انتصارها.