ثقافة وفن

سجلوا وصولهم وذكرياتهم ووصفهم للأرض التي وصلوا إليها … الفينيقيون وصلوا إلى أميركا قبل كولومبس بألفي عام

| المهندس علي المبيض

يجمع المؤرخون دون استثناء أن بلاد الشام كانت مهد الحضارة وأن الشعوب التي استوطنت هذه البلاد صدرت للعالم الثقافة والعلوم والفنون، وكما يعلم الجميع فإن ما قدمته الحضارات التي تعاقبت على سورية كبير جداً إلى درجة يقف المرء مذهولاً من حجمه وتنوعه ومدى تأثيره على البشرية وإسهامه في تقدم العلوم والفنون في العالم.
وإدراكاً من السوريين لأهمية المشاركة في منظومة الحضارة الإنسانية العالمية فقد سعوا ومنذ القدم لتأمين متطلبات الجسد والفكر في آن واحد، ففي بداية الألف التاسع قبل الميلاد عثر في بعض المناطق على آثار لزراعة القمح وفي سورية ظهرت القرى الزراعية الأولى وتم تصنيع أول محراث زراعي وتدجين الحيوان وتم العثور على أول نوتة موسيقية وأول معاهدة سلام وأول معجم لغوي تضمن معاني الكلمات السومرية وابتكار أول أبجدية وهي واحدة من أعظم الاختراعات التي عرفتها البشرية والتي كان لها أثر واضح في تطور العلوم والفنون والثقافة…. وغيرها الكثير.

وكنا قد قدمنا في المقالين السابقين لمحةً موجزةً عن جزيرة أرواد وقمنا بجولة قصيرة فيها تعرفنا خلالها على معالمها التاريخية واستمعنا بخشوع لقلعتها وهي تروي قصصاً عديدة وقعت فيها، تلك الجزيرة الساحرة وعلى الرغم من صغر مساحتها إلا أنها كانت ذات يوم مركزاً رئيسياً للمملكة الفينيقية وتحكم جزءاً كبيراً من الساحل السوري.
وبعد انتهاء جولتنا في الجزيرة ركبنا السفينة الفينيقية التي صنعها أبناء جزيرة أرواد أو أرادوس والذين مازال أحفادهم يصنعونها حتى اليوم ونزلنا على شاطئ طرطوس وسرنا مسافة 700 م حتى وصلنا إلى عمريت تلك المدينة العريقة، اقتربنا من معبدها وشربنا من ينبوعها المقدس للاستشفاء والتبرك ووقفنا نتأمل هيكل المعبد الذي ينتصب بهيبة وسط ساحته بارتفاع يصل حتى خمسة أمتار ونصف المتر حين مرت أمامنا فتاةً فينيقيةً تحمل جرتها على كتفها، وجلسنا على مدرجات الملعب نتابع بحماس ألعاب القوى والجري وسمعنا صهيل الخيول وهي تجر العربات الفينيقية وشاهدنا خوذات الجنود البرونزية تلمع تحت ضوء القمر.
وتذكرت الأسطورة الفينيقية القديمة التي تقول إن من يمت غرقاً فإن روحه تذوب في البحر فتصبح مياهه مالحةً، وفي الليل تخرج الأرواح عارية من البحر إلى معبد عمريت وتغتسل بمياه النبع المقدس ثم تعود لأعماق البحر قبل بزوغ الفجر.
وقبل أن نستكمل الحديث عن بقية المعالم التاريخية في طرطوس، وطالما تحدثنا عن مملكة أرواد وعمريت الفينيقية أجد أنه من الضروري أن نعطي فكرة بسيطة عن وجود الفينيقيين في منطقتنا والذي يسلط الضوء على إصرار السوري للسير في ركب الحضارات منتجاً لا مستهلكاً، فاعلاً وليس منفعلاً وسعيه الدائم لتوجيه دفة الأحداث واستيعاب كل الظروف التي مرت على المنطقة حيث أصبحت هذه السمة مكوناً رئيسياً للشخصية السورية.
الفينيقيون مجموعة تنحدر من الأصول السامية ظهروا في الألف الثاني قبل الميلاد، استوطن الفينيقيون الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وغرب منطقة الهلال الخصيب وشملت في البداية المناطق الساحلية في سورية وفلسطين ولبنان حيث أقاموا في هذه المنطقة عدة مدن رئيسية مثل طرطوس، أرواد، عمريت، جبيل، بيروت، صيدا، صور، حيفا… ، ثم انتشروا فوصلت امتداداتهم إلى بعض مدن غرب البحر الأبيض المتوسط من أبرزها مدينة قرطاج في شمال إفريقيا مروراً إلى صقليّة ومالطة وكورسيكا ومناطق جنوب إسبانيا.. وغيرها وانتشر الفينيقيون حتى سيطروا على البحر المتوسط كله، وساهم الفينيقيون بنشر حضارات المنطقة عبر البحر المتوسط حيث مخروا عباب البحر وعينهم على موارد جديدة يوسعون بها تجارتهم.
فينيقيا والفينيقيون هو الاسم الذي أطلقه قدماء الإغريق على كنعانيي الساحل السوري والمناطق التي استوطنوها وكان الشاعر الإغريقي هوميروس أول من استخدم هذا التعبير وتعني الرجال الحمر أو البنفسجيين وذلك بسبب لون ملابسهم وأقمشتهم الأرجوانية والتي اشتهروا بارتدائها والمصبوغة من حيوان قشري بحري يدعى الموركس.
اختار الفينيقيون معظم مواقع مدنهم على الهضاب والجزر وبالقرب من ساحل البحر أو شواطئ البحيرات والتي تسمح بمرور المراكب بسهولة وذلك لأسباب دفاعية ولتأمين الحماية الطبيعية، وكانوا يمتلكون أسطولاً بحرياً ضخماً فرض هيبة الفينيقيين وسلطانهم على كامل البحر الأبيض المتوسط.
تميز الفينيقيون بشكل رئيسي في التجارة والملاحة البحرية ولهذا أسبابه إذ كان الشريط الساحلي الذي شغله الفينيقيون ضيقاً مما دفعهم ذلك للاهتمام بالتجارة والبحث عن أسباب نجاحها وازدهارها والاستفادة من موقع المنطقة المهم التي يشغلونها والتي تتحكم في طرق المواصلات التجارية وكانت بمثابة عقدة طرق تصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، ومن جهة أخرى فقد ساعدهم وجود غابات أشجار السرو والأرز والصنوبر في مناطق انتشارهم لبناء السفن والمراكب التي استخدمها الفينيقيون في تصريف بضائعهم والترويج لتجارتهم، وهذا شكل سبباً رئيسياً لتفوق الفينيقيين في التجارة البحرية.
تفرد الفينيقيون بالسيطرة على البحر ونشطت صناعة السفن في المناطق التي كانت تخضع لسيطرتهم وبرعوا في الملاحة وتوصل الفينيقيون لمعرفة نسبة الطول إلى العرض المثالية في تصنيع السفن وهي نسبة معمول بها حتى اليوم وأسس الفينيقيون خط إنتاج في قرطاج لبناء السفن يشابه إلى حد كبير خطوط إنتاج صناعة السفن في الوقت الحالي بحيث تتخصص كل مجموعة من الحرفيين بإنتاج قطعة من جسم السفينة، وهذا إنجاز مهم جداً يحسب للفينيقيين وساهم في تطوير بناء السفن التي مكنت الشعوب فيما بعد من ركوب الأمواج وتطويع البحار والمحيطات، ولجأ الفينيقيون لتأسيس العديد من مراكز تصنيع السفن في حوض البحر الأبيض.
كما اشتهر الفينيقيون في صناعة الزجاج والذي أخذ فيما بعد يعرف باسم الزجاج الفينيقي وتميزت الأشكال الزجاجية التي صنعها الفينيقيون بأنها غنية بالألوان التي تدخل ضمن تصنيع العجينة الزجاجية، حيث يعتقد أن التجار الفينيقيين هم أول من عرف وبالمصادفة تقنيات صنع الزجاج وذلك عندما رسا قارب فينيقي على ساحل مدينة صور وبينما كان التجار يُعدّون طعامهم على الشاطئ مستخدمين بعض قطع نترات البوتاسيوم لإشعال النار، ذابت النترات واندمجت مع رمال الشاطئ وتشكلت تيارات من سائل شفاف جديد، وأدت هذه العملية إلى خلق مجموعة من الأشكال الزجاجية الملوّنة ذات مظهر جميل، وكان ذلك بداية الزجاج الفينيقي.
صَنًعَ الفينيقيون الأواني والكؤوس وقوارير الطيب والأقراط والأساور والعقود مرصّعة بأحجار زجاجيّة شديدة الشّبه بالأحجار الكريمة، وبفضل براعة الفينيقيين بالتجارة والعلاقات التجارية التي ربطت المدن الفينيقية مع سائر أنحاء العالم القديم فقد انتشرت هذه الصناعة على مدن حوض البحر الأبيض المتوسط.
نقطة مهمة جداً أود أن أشير إليها تعكس عراقة الحضارات التي قامت على هذه الأرض الطاهرة خلال جميع الحقب التاريخية والتي شكلت لدى السوري خبرات تراكمية كبيرة، فقد أثبتت الأبحاث أنه من المؤكد أن الفينيقيين قد وصلوا إلى أميركا قبل كريستوفر كولومبوس بحوالي 2000 عام تقريباً وهناك أدلة كثيرة على ذلك، منها ما أكده العالم الأميركي وليام سترونغ من خلال الدراسات التي قام بها أثناء بحثه عن آثار الهنود الحمر عام 1940 حيث اكتشف وجود كتابات فينيقية محفورة على الحجارة في منطقة هاريرغ في بنسلفاينا يعود تاريخها إلى عام 371 ق. م وقد جمع ما يزيد على 400 قطعة من هذه الحجارة وبلغ عدد الحروف 22 حرفاً فينيقياً ووردت فيها ذكر أسماء مدن مثل قرطاجة، جبيل، حلب.
كما يذكر العالم المكسيكي خوسيه ايبيزاير لامارنيا أن الفينيقيين هم أول من وصل إلى أميركا قبل كريستوفر كولومبوس وكان اكتشافهم للعالم الجديد من باب المصادفة بسبب تعرض جماعة منهم أثناء رحلاتهم البحرية المعتادة لعواصف هوجاء ورياح ضربت مراكبهم وتاهوا في البحر لمدة طويلة إلى أن وصلوا إلى السواحل الشرقية للقارة الأميركية.
ويشير الباحث المكسيكي أن الفينيقيين سجلوا وصولهم وذكرياتهم ووصفهم للأرض التي وصلوا إليها وبعض عادات أهلها في نقوش باللغة الفينيقية على صخرة بارايبا في البرازيل تم اكتشافها عام 1874 م.
إضافة إلى ذلك فقد تمّ العثور على دلائل أخرى تؤكّد وجود الفينيقيين في البرازيل، ففي مصبّ نهر الأمازون تمّ اكتشاف مسكوكات فينيقية وأشكال خزفية وفخارية عليها عدّة رسوم فينيقية معروضة في متحف غويلدي دي بليم في البرازيل.
وختاماً أتساءل ماذا نستنتج من ذلك؟
ألا يدل ذلك على عمق وعراقة الحضارات التي قامت فوق هذه الأرض الطاهرة؟
ألا يعطينا ذلك دليلاً على أصالة السوريين وانفتاحهم على العوالم الأخرى وسعيهم للتواصل الحضاري مع جميع شعوب المنطقة؟
وبالنتيجة فإن هذه المقالات التي نقوم بنشرها هي محاولة متواضعة لتسليط الضوء على نقاط القوة في التاريخ السوري المشرق والذي يروي قصة حضارات وممالك تعاقبت على كامل الجغرافية السورية قام بكتابة مجدها جميع السوريين، والتي ساهمت بشكل فعال في منظومة الحضارات الإنسانية العالمية، وهدفنا من ذلك التأكيد أن السوري هو وريث تاريخ عريق وسليل حضارة مجيدة وثقافة عظيمة يمكن أن تشكل أرضيةً مشتركةً بين كل السوريين، ونقاط التقاء عديدة بينهم، كما تشكل سداً منيعاً أمام طوفان الأفكار الهدامة، وتعتبر من أهم العوامل التي تحد من آثار التجزئة والتفتيت.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن