طائر الفينيق
حسن م. يوسف :
أمسك بي بكلتا يديه كما لو أنه يخشى أن أفر منه، قال لي: «عندي سؤال يحرقني كما النار الشاعلة، وأريد منك أن تعدني بالإجابة عنه بصراحة تامة».
ابتسمت له بحرج، لأنني لم يسبق أن رأيته في حياتي، وبعد أن شكرته على ثقته الغالية، وعدته بأن أكون صريحاً معه فيما لو كانت لدي إجابة عن سؤاله.
ألقى عليَّ نظرة متفحصة وخفف من ضغط يديه على يدي كما لو أنه يفكر أن يخلي سبيلي، لكنه قطب فجأة وحدق في عيني قائلاً بما معناه: «أين كان يختبئ فينا كل هذا الوسخ؟».
كان رجلاً خمسينياً مربوع القامة، شعره يغطيه ثلج الوقت، يوحي مظهره أنه أمضى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته موظفاً لدى الدولة. قلت له إن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج لفريق طويل عريض من المتخصصين بعلم النفس وعلم الاجتماع، وقد يحتاجون بضع سنوات من البحث والتحليل قبل الإجابة عنه.
هز يدي كما لو أنه يوقظني من غفوة طالت. قال بحزم: «أنا أقرأ لك منذ زمن، وأريد منك أن تجيب عن هذا السؤال».
عند هذا الحد لم أستطع أن أمنع نفسي من إطلاق ضحكة خافتة، لكن ضحكتي تبخرت عندما لاحظت ظل دمعة في عيني الرجل. ابتلعت لعابي بصعوبة، صارحته وأنا أنظر إلى يديه الممسكتين بيدي أنني قد فكرت كثيراً بموضوع العنف الكامن في الواحد منا تجاه الآخر، لكنني لم أتوصل إلى استنتاج نهائي بشأنه. صمتُّ لحظات، ولما رأيت علامات خيبة الأمل على وجه الرجل، سألته: من أين يأتي القيح الذي يظهر في الجرح الملتهب؟ قال لي ببساطة: يأتي من الجرح الملتهب نفسه.
قلت له وأنا أهز يده: «للعاقل من نفسه ناصح، ها أنت قد أجبت عن سؤالك بنفسك. « تساءل باقتضاب: «يعني؟» أجبته: يعني أن مجتمعنا مجروح ومناعته ضعيفة ولهذا التهبت جراحه بهذا الشكل المخيف.
غمغم بشرود: «معقول! لست أصدق أن كل هذا الوسخ كان مخبأ فينا!».
قلت له بشيء من الثقة: الوسخ الذي يطفو في شوارعنا هو نتيجة إخفاق نظامنا التربوي والثقافي في استئصال التشوهات المتراكمة فينا على مر التاريخ».
قال شارداً: «قولك ما في أمل؟».
قلت له: الأمل اليوم أكبر من أي وقت مضى، فعندما يتخلص الجرح من القيح تكون هذه أولى علامات الشفاء.
شد الرجل على يدي مجدداً وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، ثم مضى مبتعداً بخطوات واسعة.
أغمضت عيني فعبرتني سورية كنيزك، رأيتها بعين خيالي تأخذ شكل طائر العنقاء الذي سماه اليونان طائر الفينيق، تخيلتها طائراً سحرياً يختار نخلة شاهقة سامقة، يقف منتصباً في أعلاها، رافعًا جناحيه نحو السماء، ثم يصفق بهما تصفيقًا مدوِّياً. وبرمشة عين يلتهب الجناحان ويتحولان إلى مروحة من نار تحيل الطائر برمته إلى كومة من رماد. وبعد قليل يخرج من تحت الرماد، طائر جديد، شديد الشبه بالطائر القديم فيحلق عائداً من فوره لمكانه الأصلي على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، صنواً للخلود.