موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إبرام اتفاق سوتشي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، كانت مفاجأة إلى حد بعيد، إذا ما قورنت مع المواقف التي أطلقها خلال قمة طهران.
اختار الرئيس الروسي اعتماد الآلية الروسية التركية الثنائية لتهدئة الوضع في إدلب، عوض أن يبقي المسألة خاضعة للآلية الثلاثية الروسية الإيرانية التركية التي قامت عليها عملية أستانا. ونص الاتفاق على إمكانية زيادة الأتراك عديد قواتهم في إدلب ومحيطها من دون الإشارة إلى الضامن الثالث لعملية أستانا (إيران). زاود أردوغان ومضى خطوة أبعد طامحاً إلى إدخال إدلب ضمن آلية تنسيق جديدة. ودعا إلى عقد قمة رباعية على البوسفور جمعته وبوتين إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. بذلك، وجدت طهران نفسها مستبعدة عن المسرح الدبلوماسي بشأن القضية السورية، على الرغم من أن كل المناورات العسكرية غير ممكنة من دون دور إيراني فعال.
هذه المناورات تشمل إبقاء الضغط على المجموعات الإرهابية والمسلحة المتمركزة في إدلب وريف حلب الشمالي، كما تضمن ممارسة الضغوط على الوجود الأميركي في شرق سورية. وهو يصب في طواحين السياسة الروسية بعد اتفاق سوتشي، والذي قلبت بنتيجته موسكو توجهها في سورية من حسم مصير إدلب قبل نهاية العام الجاري، وحل مسألة الشرق السوري خلال العام المقبل 2019، إلى فتح مصير المنطقتين معاً، وبالتوازي، واستخدامهما لمنع أي اتفاق أميركي تركي في الشمال السوري، وهو الاحتمال الذي برز بشدة خلال التحضيرات العسكرية لعملية إدلب في الصيف الماضي.
رفعت موسكو حدة انتقاداتها للدور الأميركي في شرق سورية بعد اتفاق سوتشي، وزادت من عديد قواتها في مناطق من محافظة دير الزور، وهي الآن بصدد زيادة الضغط الدبلوماسي على الأميركيين والأتراك، معاً، من خلال لعب ورقة «التمثيل الكردي» في اللجنة الدستورية، وربما كان هدفها الأوسع دق مزيد من الأسافين بين أنقرة وواشنطن، وإظهار أن العرقلة الأساسية لعملية السلام السورية تأتي من الخلافات التركية الأميركية حول التمثيل الكردي، والدعم الأميركي لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (بيدا) في إقامة «سلطة موازية» أو «شبه دولة» في شمال شرقي سورية.
مع موافقتهم على عدم التصعيد الشامل في إدلب، سيتدرج الروس بممارسة ضغوط ميدانية داخل إدلب وشرق سورية، تستهدف ضبط الدورين التركي والأميركي وجعل أنقرة تفكر مرتين قبل المضي قدماً في طريق التقارب الأميركي التركي، وفي نفس الوقت قضم المزيد والمزيد من المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين واسترجاعها إلى سيطرة الجيش السوري. والأفضل لروسيا أن تترافق الضغوط الميدانية مع تصادم تركي أميركي على طول الحدود السورية التركية، في المناطق الخاضعة لسيطرة مسلحي ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تقود «قوات سورية الديمقراطية» (قسد).
على الصعيد الإقليمي، تبدو موسكو وكأنها بصدد مزيد من الانفتاح على المحور المصري الإماراتي السعودي. تريد روسيا اتخاذ خطوة جديدة تجاه هذا المحور، تماشياً مع رغبتها في المحافظة على دورها في الشرق الأوسط، بوصفها اللاعب الدولي الأشد قرباً إلى المحاور الإقليمية المتنافسة من قربها إلى بعضها البعض. فالنقلة الجديدة في العلاقات الروسية التركية بعد اتفاق سوتشي وافتتاح المرحلة الأولى من السيل التركي، توازت مع الدعم الروسي لإيران في مواجهة العقوبات الأميركية الجديدة. ولا شك أن تسمية السفير الروسي في الإمارات ألكسندر يفيموف سفيراً لبلاده إلى دمشق جاءت كإشارة إلى المحور السعودي المصري الإماراتي.
قادت العمليات العسكرية حول الغوطة الشرقية، مصر، للعودة إلى مجموعة «أصدقاء سورية» التي تقودها واشنطن، وترافق ذلك مع زيادة السعودية والإمارات لدورهما ضمن المجموعة، التي باتت وظيفتها دعم المشروع الأميركي في شمال شرق سورية، بوصفه حاجزاً أمام اللدّين الإيراني والتركي. وعلى حين تدرك موسكو هذا الأمر، إلا أنها تعرف أن مواجهتها مع الولايات المتحدة في سورية هي مسألة من مسائل الصراع الدولي المعقدة، وأن المحافظة على مرونة دبلوماسيتها في الشرق الأوسط تتطلب تطوير روابط إيجابية مع المحاور الإقليمية المتصارعة. بكلام آخر، لا تخلط موسكو بين الحرص على تطوير علاقاتها مع القوى الإقليمية بالشرق الأوسط، وتوتر علاقاتها مع واشنطن.
والمناورة الروسية جريئة للغاية لأنها تستعمل الورقة الخليجية المصرية في سورية ضد الأتراك، بعيد توقيع اتفاق سوتشي ومع توارد أنباء عن انتشار قوات خليجية شرقي نهر الفرات بمحافظة دير الزور، وفي لحظة تصاعد العداء التركي السعودي على خلفية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، فضلاً عن ترافقها مع استمرار المنافسة السعودية الإيرانية في المنطقة وبلوغها الأوج مع تداعي فصول معركة الحديدة، وتزايد الضغوط على إيران بعد فرض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب العقوبات على مبيعاتها للنفط.
بينما يمضي الروس في تطبيق سياستهم المعدلة للتعامل مع التحديات الناشئة عن الأزمة السورية، ينصرم العام، فيما تتزايد التعقيدات حول أدوار إيران والولايات المتحدة وتركيا، وترحل إلى العام المقبل.