قضايا وآراء

دعائم الحل السياسي للأزمة السورية

| مازن جبور

لا ينفك المشهد الميداني في منطقة شرق وشمال شرق وشمال البلاد، يزداد تعقيداً في ظل تواجد ميليشيات مسلحة وتنظيمات إرهابية تعمل بالتنسيق مع قوات أميركية وأخرى تركية تتواجد بشكل غير شرعي على الأرض السورية، ضمن حيز جغرافي خارج عن سيطرة الدولة يعيش ضمنه جزء مهم من تكوين المجتمع السوري، في ظل حال من الفوضى والعمل الميليشياوي والإرهابي الذي تمارسه الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التابعة لهؤلاء الفاعلين الدوليين.
إن حل الملفين السابقين، يتطلب بالدرجة الأولى التشخيص الدقيق للوضع في تلك المنطقتين، ومن ثم تحديد الإمكانات والقدرات الحقيقية للدولة السورية، وهذا يقتضي درجة عالية من العقلانية السياسية، خصوصاً أن الهدف النهائي للدولة السورية هو تحقيق وحدة وسيادة واستقرار سورية، الأمر الذي يتطلب تفكيك التواجد الأجنبي اللاشرعي على الأرض السورية ومن ثم تفكيك التنظيمات المسلحة المتواجدة في المنطقة.
إن العقدتين السابقتين هما من النوع المتداخل والمترابط القائم على أساس مفهوم «الأداتية»، أي إن تلك التنظيمات والميليشيات، تعتبر أداة بيد الفاعل الدولي المتواجد في شرق وشمال شرق البلاد أي الولايات المتحدة وحلفائها، وفي شمال البلاد أي تركيا، ومن ثم فإن حل عقدة التواجد الإرهابي المسلح ترتبط بشكل مباشر ورئيسي بالتواجد الدولي اللاشرعي.
تقتضي العقلانية أن نبحث في إمكانية الحلول للملفين السابقين في ضوء الممكن لا في ضوء الضروري ومن ثم فإن الضروري ألا وهو استعادة آخر شبر من الأرض السورية، يبقى الهدف النهائي، والممكن يحدد في ضوء المقدرة على الفعل، ونظراً لأن الدولة السورية وضعت منذ اليوم الأول للأزمة نوعين من الخيارات أمامها للحل، وهما الحل السياسي والحل العسكري، فإن الانطلاق نحو الهدف النهائي للحل سينطلق من هذه النقطة ألا وهي إستراتيجية الدولة السورية في الحل، القائمة على أساس تجربة الحل السياسي ولأكثر من مرة ومن ثم استقدام البديل الحل العسكري.
لا يجب النظر إلى الحل السياسي أو العسكري كمعطى واحد جامد، بل يجب البحث عن دعائم لهذا الحل، فكلا الحلين يحتاجان لدعائم اقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية وتنموية شاملة، أي إن فكرة التعويل على الاجتماعات الدولية بين الفواعل الدوليين الرئيسيين في الأزمة السورية تبقى جزئية في طريق الحل، كذلك فإن الحل العسكري يحتاج للدعائم السابقة ذاتها مضافاً إليها دعائم سياسية.
الحل العسكري مع الملفين السابقين يبقى من النوع القاسي على سورية والسوريين، فشكل المعركة في شمال وشرق وشمال شرق البلاد تختلف عن شكلها في الأماكن الأخرى، نظراً لأنها قد تقود إلى معارك مفتوحة مع الفواعل الدولية الموجودة في كلا المنطقتين، الولايات المتحدة وحلفاؤها وتركيا، إضافة إلى أن الدخول في هكذا معركة يتطلب التدقيق في مدى الإمكانات العسكرية والاقتصادية والبشرية المتوفرة للدولة السورية للدخول في هكذا صدام، وقبل هذا وذاك يعتمد الأمر بالدرجة الأولى على رغبة الحلفاء أي روسيا وإيران واستعدادهم للذهاب باتجاه هكذا مواجهة، وهو أمر لا يبدو جلياً عند الحليف الروسي، ولا يمكن فيه التعويل على الحليف الإيراني فقط.
فالحليف الإيراني لديه الآن حصار خانق ويرزخ تحت ضغوط دولية كبيرة، وإن كانت المواجهة ستؤمن له مخرجاً من هذه الضغوط أو ساحة معركة للمفاوضة على رفعها عنه، إلا أنه من الممكن أن يذهب باتجاه المواجهة في شرق وشمال شرق البلاد حيث الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها الكرد، وهما عقدتان أساسيتان بالنسبة لإيران ذاتها، فبالدرجة الأولى الولايات المتحدة هي من يقود الضغوط على إيران وبالدرجة الثانية فإن إيران لديها ملف كردي خاصتها، وإذا ما دخلت إيران في معركة ضد الكرد في سورية فإنها ستكون بمثابة ضرب أربعة عصافير بحجر واحدة، واجهت الولايات المتحدة في ساحة إقليمية خارج الأراضي الإيرانية، أوصلت رسالة إلى كرد إيران، أعادت الاتصال، فيما لو انتصرت في المعركة، على خط «طهران دمشق بيروت»، وأخيراً زادت من التقارب مع تركيا باعتبارها وجهت ضربة لعدو أنقرة اللدود في سورية أي إلى الكرد.
يبقى الحل الآخر ألا وهو الحل السياسي الأكثر إمكانية ومقبولية والأكثر مناسباً للوضع الحالي في المنطقتين المذكورتين أعلاه، إلا أن هذا الحل وكما ذكرنا سابقاً يحتاج إلى دعائم، دعائم اقتصادية واجتماعية وثقافية وتنموية، كما يتطلب الاستفادة من الوضع الداخلي في المنطقتين المذكورتين.
أولاً، لا بد من التركيز على الوضع الداخلي في المنطقتين، إذ تعاني كلاهما من عمل ميليشياوي وإرهابي، ومن سوء في الأوضاع الاقتصادية والخدمية، يجعل المجتمع المتواجد فيهما يتوق للعودة إلى سلطة الدولة، كما أنه في شرق وشمال شرق البلاد هناك مكونات اجتماعية مختلفة وليست جميعها تحت العباءة الأميركية، وبالتالي يمكن الاستفادة من هذه المكونات عبر التشبيك معها وتوجيهها بما يخدم المنطقة المذكورة.
أما في شمال البلاد، فيمكن النظر إلى أي هدنة دائمة وممتدة نوعاً ما على أنها عامل إيجابي، باعتبارها ستمكن الدولة السورية من تنمية المنطقة المحيطة بإدلب لتشكل عامل جذب للمقيمين داخلها، ومن ثم تتم عملية إفراغ للمحافظة ومحيطها من التجمع البشري الكبير فيها والذي يقارب 3 ملايين إنسان، كما حصل تماما في الغوطة الشرقية التي تراجع عدد سكانها من 1.2 مليون نسمة إلى نحو 400 ألف قبيل استعادة السيطرة عليها عسكريا في الربع الأول من العام الجاري، كذلك فإن الدخول في هدنة سيسحب شرعية تواجد كل من جيش الاحتلال التركي والتنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة المتواجدة في المنطقة باعتبارها ستفقد المبرر الرئيس لوجودها والذي هو قتال «النظام» وفق زعم الثانية، وحماية المدنيين وفق زعم الاثنين معاً، وهذا سيدخل جيش الاحتلال التركي ومرتزقته والتنظيمات الإرهابية في الشمال في دوامة من الصراع على النفوذ والموارد.
هنا لا بد من التذكير بحالة الاقتتال التي تدور في محافظة إدلب ومحيطها بين تلك التنظيمات والميلشيات في الوقت الراهن على النفوذ وعلى التحكم بالمعابر المتواجدة في المنطقة، هذا إضافة إلى عمليات التصفية التي تتواصل منذ أشهر والتي لا بد أنها ستزداد أكثر إذا ما دخلت المحافظة في تسوية لمدة زمنية أطول، ويمكن تدعيم عمليات التصفية تلك عبر إحداث خروقات في الميليشيات المسلحة الأكثر قابلية لتسوية أوضاعها ولاسيما تلك التي انتقلت إلى إدلب من باقي المناطق السورية المحررة والتي عانت تضييقاً وتمييزاً من قبل تلك المتواجدة في المحافظة أصلاً.
إضافة إلى ما سبق، لا بد من التركيز على الوضع المتردي للسكان في المخيمات المنصوبة في إدلب وشرق وشمال شرق البلاد، والدفع باتجاه أن تقدم لهم المساعدة عن طريق الهلال الأحمر العربي السوري بدلاً من أن تأخذ منظمات إغاثية أخرى لهم مساعدات، خصوصاً أن تلك المنظمات الإغاثية تقدم لهم المساعدة بطريقة انتقائية تمايز بين سكان المخيم الواحد من جهة وبين المخيمات المختلفة من جهة أخرى.
على المقلب الآخر من الحل السياسي على المستوى الدولي والإقليمي، إذ تعدّ الأزمة السورية إحدى تداعيات التفاعلات الصراعية في النظام العالمي الذي بدأت وحداته تتصادم على المنطقة التي تعتبر امتداداً أوراسياً، سيبقى الملفان السابقان من النوع الساخن على خط اتصالات الفواعل الدولية في الأزمة السورية، وسيشكل اختباراً حقيقياً في ظل احتمالات صدام المصالح بينهما، ومن ثم فإن طريق الحل للأزمة السورية محكوم بمدى القدرة على إيجاد تفاهمات ولو بالحدود الدنيا بين الفاعلين الدوليين المباشرين في الأزمة السورية، فيما يخص تقاطع المصالح في سورية وعلى سورية ذاتها، وهذا يحتاج إلى نمط جديد من الاجتماعات الدولية، رباعية وخماسية وسداسية وربما أكثر من ذلك من عدد الفاعلين الدوليين في الأزمة السورية ومن خارجها، ولعل صيغة التفاهمات الثنائية الروسية التركية الروسية الأميركية الروسية الأوروبية، باتت قاصرة عن إنتاج حل نهائي، ويمكن الاستعاضة عنها بدفع الصين والهند للدخول على خط التحضير لعقد اجتماع موسع للفواعل الرئيسية في الأزمة السورية.
في النهاية، إن استعادة السيطرة على آخر شبر من الأرض السورية يمثل خياراً رئيسياً للدولة السورية، مع التأكيد أن أنصاف الحلول لم تعد تجدي وهو ربما ما أكدته وتؤكده دمشق مراراً وتكراراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن