ثقافة وفن

الفينيقيون أول من وصل إلى القارة الأميركية … معذرة كولومبوس.. لست أول من اكتشف أميركا

| المهندس علي المبيض

نستكمل اليوم ما كنا قد بدأنا به منذ بداية هذه المقالات التي نقوم بنشرها أسبوعياً والتي نهدف من ورائها أن يكون القارئ على معرفة بتاريخه الحافل والتراث الثقافي السوري الغني والمتنوع وأهمية الدور الذي لعبته سورية خلال مسيرتها الطويلة، ومن ثم أن يضع هذا التاريخ من التقدير في مكانه المناسب ويسعى لمد جسور التواصل بين الماضي والحاضر للانطلاق نحو المستقبل بثقة لا يدانيها أي شك بأن هذه المنطقة تتميز بأهمية كبيرة وتحمل بعداً اقتصادياً إقليمياً ودولياً واسعاً ويحقق لها موقعها الإستراتيجي بين القارات الثلاث ذلك، وكانت هذه الأهمية تمنحها منذ القدم أوراقاً عديدةً ومتنوعةً تجعلها قوةً اقتصاديةً وعسكريةً مهمة وتوفر لها أسباب الازدهار الثقافي والمعرفي والحضاري عبر جميع المراحل التاريخية التي مرت بها وتهيئ أن تكون سورية منتجة للحضارة وليست متلقية لها.

كنا قد تناولنا بالمقالات الثلاثة الأخيرة لمحةً موجزةً عن جزيرة أرواد أو أرادوس حسب ما سماها الإغريق أو آراد أو أرفاد حسب اللغة الفينيقية والتي يعود تاريخها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد وكانت قديماً تحكم جزءاً كبيراً من الساحل السوري ومركزاً رئيسياً للمملكة الفينيقية على الرغم من صغر مساحتها، وقمنا بجولة قصيرة فيها تعرفنا خلالها على القلعة المركزية التي حولها المستعمر الفرنسي في فترة الاحتلال إلى معتقل سجنَ فيه زعماء المقاومة الوطنية، كما شاهدنا الملعب الرياضي الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد حيث كان أبناء الجزيرة يقيمون عليه الاحتفالات والألعاب الرياضية الأولمبية القديمة وأخذ الإغريق فكرة الألعاب الأولمبية عن الفينيقيين سكان الجزيرة والساحل الشرقي للبحر المتوسط ومزجوا بين إقامة المهرجانات الرياضية وإقامة الطقوس الوثنية معاً، ووقفنا بذهول أمام الحجارة الضخمة لسور الجزيرة التي قد يصل وزن بعضها إلى عشرين طناً إضافة للحمام الأثري والقلعة الساحلية والمدفن اليوناني ثم انتقلنا إلى عمريت المدينة الساحرة كي نشرب من نبعها المقدس وتجولنا في أنحاء معبدها الفينيقي والملعب الرياضي الأولمبي والمدافن الأثرية.
وقدمنا في المقال السابق لمحةً موجزةً عن الفينيقيين اللذين شغلوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط وتحدثنا عن مدى إسهاماتهم بالحضارة الإنسانية العالمية وتأثيرهم في المنطقة، وذكرنا أن الفينيقيين هم أول من وصل إلى القارة الأميركية في سفن تجارية قبل كريستوفر كولومبوس بحوالى ألفي عام وقد لقيت هذه المعلومة اهتماماً ملحوظاً من السادة القراء تجلى ذلك بالعديد من الاتصالات التي طلبوا خلالها التوسع في هذه المعلومة.
ورغبة في تعميم الفائدة فإننا نضيف إلى ما ذكرناه سابقاً السؤال التالي: لماذا ارتبط اسم كريستوفر كولومبوس باكتشاف العالَم الجديد أو القارة الأميركية ولماذا دعمه ملوك إسبانيا ومنحوه لقب أمير البحار والمحيطات؟
نؤكد أن الفينيقيين قد وصلوا إلى الساحل الشرقي للقارة الأميركية وبالتحديد إلى الشاطئ البرازيلي الشمالي الشرقي بالمصادفة ومن دون أن يكونوا على دراية أو تخطيط لذلك، لأن سفنهم الشراعية أخذتهم إلى هناك بفعل الأمواج والرياح من دون علمهم أو إرادة منهم، ومن غير المعلوم إذا ما كانوا قد عادوا إلى موطنهم الأصلي أم لا؟
وساعد الفينيقيين في ذلك طموحهم التجاري الكبير وثقافتهم الواسعة وبراعتهم بالملاحة والإبحار وتفوقهم في صناعة السفن في تلك الفترة ويشهد لهم التاريخ القديم ببطولات ومغامرات من هذا القبيل وعلى سبيل المثال قاموا في بداية القرن السادس قبل الميلاد بالإبحار حول إفريقية واستمرت الرحلة ثلاث سنوات، وكذلك فقد قاموا بسلسلة من الحملات البحرية منها رحلة على طول ساحل إفريقية الغربي حتى خليج غينيا ورحلات إلى بروتاني في شمال غرب فرنسا، كذلك إلى جنوب غرب بريطانيا، كما قاموا برحلات بحرية لاستكشاف ومعرفة الطرق البحرية بعد مضيق جبل طارق وكان الهدف من هذه الرحلات تجارياً بحتاً بغية فتح آفاق عمل جديدة وللحصول على المنتجات الثمينة.
وكنا قد ذكرنا في المقال السابق أن العالم المكسيكي خوسيه ايبيزاير لامارنيا أكد أن الفينيقيين هم أول من وصل إلى أميركا قبل كريستوفر كولومبوس وكان اكتشافهم للعالم الجديد من باب المصادفة بسبب تعرض جماعة منهم أثناء رحلاتهم البحرية المعتادة لعواصف هوجاء ورياح ضربت مراكبهم وتاهوا في البحر مدة طويلة إلى أن وصلوا إلى السواحل الشرقية للقارة الأميركية، ويشير الباحث المكسيكي إلى أن الفينيقيين دونوا ذكرياتهم ووصفهم للأرض التي وصلوا إليها وبعض عادات أهلها في نقوش باللغة الفينيقية على صخرة بارايبا في البرازيل التي تم اكتشافها عام 1874 م وجاء في مقدمة هذه الكتابات والنقوش نحن أبناء كنعان عصفت بنا الرياح إلى هذا الساحل البعيد من أرض الجبال… الخ. وتذكر الكتابات والنقوش والمصاعب والعقبات التي اعترضت طريقهم.
ويؤكد العالم الأميركي الإيكولوجي سيروس غوردون مدير الدراسات المتوسطيّة بجامعة برانديس الأميركية في نتائج هذا البحث أنه في بعض المخطوطات الفينيقية القديمة وجدت تعابير شبيهة جداً بتلك التي كانت مسجّلة على تلك الصخرة وأسلوب أدبي شبيه بها ويطابق تماماً الأسلوب التي كتبت بها، وقد برهن الباحث سيروس غوردون على نتائج ما توصل إليه قائلاً: إن النقوش والتعابير التي كانت مسجلة على صخرة بارايبا هي من خصائص الأسلوب الذي استعمله الفينيقيون في القرن السادس قبل الميلاد ويقوم استنتاجه على تحليل علمي دقيق، ذلك أنه في عام 1874م لم يكن كثير من الوثائق والمخطوطات الفينيقية معروفاً بعد، وأسلوب الكتابة الفينيقية كان مجهولاً في ذلك الوقت ما يجعل من مصداقية صخرة بارايبا وثيقةً لا يرقى إليها الشك.
وفي دراسات عديدة نشرت للباحث نفسه بينت أنه تم العثور أيضاً على لقى أثرية قديمة تضم نقوداً رومانيةً مختلطة بمسكوكات عربية في السواحل المحاذية لفنزويلا.
وكما أن هناك آثاراً فينيقية تم العثور عليها في البرازيل وفنزويلا كذلك فقد اكتشفت في أنحاء أخرى من القارة الأميركية آثار فينيقيةً أكدت وصول الفينيقيين إلى أميركا منذ العصور القديمة، ومن ذلك ما تم العثور عليه في مقاطعة كيبك بكندا وبالتحديد في مدينة شيربروك حيث عُثر عام 1900 م، على صخرة كتب عليها نقوش وكتابة فينيقية وهي معروضة في المتحف الوطني للمدينة، وفي مقاطعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية تم العثور على آثار فينيقية تعود للألف الأول قبل الميلاد.
وتؤكد الباحثة الإسبانية لويسا الفاريس دي توليدو في كتابها «إفريقية مقابل أميركا» الصادر في إسبانيا عام 2000 ميلادي حيث نشرت في كتابها بعض الخرائط القديمة التي يعود تاريخها إلى ما قبل رحلة كولومبوس، وتبدو سواحل أميركا الجنوبية واضحة فيها ما يدل على وصول أناس إليها وتوثيقها وتوصيفها ورسم حدودها قبل وصول كولومبوس، كما تؤكد الباحثة في كتابها أن في بعض مناطق أميركا اللاتينية أسماء لأنهار ومدن تماثل أسماء مدن مغربية مثل فاس ومدينة سلا وهي مدينة مغربية قديمة وعريقة تقع على ساحل المحيط الأطلسي وتطلب الباحثة من منظمة اليونسكو الاهتمام بهذا الملف ودراسة القرائن والدلائل التاريخية والثقافية تمهيداً للبت بهذا الموضوع ودعم الأبحاث والتقارير العديدة الصادرة بهذا الشأن.
ونعود للسؤال الذي سألناه في بداية المقال حيث ينبغي على المتابع لهذا الموضوع أن يبحث عن إجابة له، ما سر الاحتفاء الكبير بكريستوفر كولومبوس؟ لماذا تسليط الضوء عليه وجعله المكتشف الحقيقي لأميركا على حين سبقه الكثير إليها بآلاف السنين؟
ما دوافع كولومبوس للإبحار في بحر الظلمات كما كان يسمى المحيط الأطلسي؟ لعله البحث عن الذهب والفضة ومن ثم البحث عن الثراء؟ هل تحقيق الشهرة؟ هل رغبته في توسع المستعمرات الإسبانية؟ لماذا لم يسلط الضوء على مئات الآلاف من الضحايا من السكان الأميركيين الأصليين الذين قضى كريستوفر ورجاله عليهم؟ هل السبب في ذلك يعود إلى أن الرحالة والأشخاص الذين وصلوا إلى القارة الأميركية قبل كريستوفر كولومبوس لم يتمكنوا من العودة مرة أخرى إلى مواطنهم الأصلية؟ ولذا فإن إنجازها الحضاري وفتوحاتها الجغرافية ظلت خارج السياق التاريخي والمعرفي في العالم القديم، لكن كريستوفر كولومبوس عاد إلى العالم القديم وتواصل مع المملكة الإسبانية وأسس لعلاقات مشتركة وأقام جسراً للتواصل وحبلاً متصلاً بين جانبي المحيط، وهو بذلك الفعل قد حقق ما لم يستطع غيره من الرحالة الأوائل فعله، وهو الإنجاز الحقيقي لكريستوفر كولومبوس.
حقاً.. ما أبشع الظلم حين يتم تزوير الحقائق التاريخية ويصمت العالم بأسره عن جرائم الغزاة ويجعلهم أبطالاً تحت تأثير سلطة اكتشافٍ مزعوم.
وبالنتيجة نرجو أن نكون قد وفقنا في تسليط الضوء ولو بشكل موجز على إسهام الفينيقيين ودورهم في الوصول إلى العالم الجديد، وفي المقال القادم سنقدم إن شاء اللـه إضاءةً مختصرةً على كتاب «معذرة كولومبوس.. لست أول من اكتشف أميركا» للباحثة هاينكة زودهوف حول الموضوع ذاته وسنقوم بإنهاء هذا الملف المهم.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن