ثقافة وفن

وداعاً أيها الماجد

| بقلم أ.د. محمود السيد

إذا كان لكل امرئ من اسمه نصيب فإن اللواء الطبيب ماجد العظمة رحمه الله له من اسمه النصيب كله نبلاً وشرفاً وسماحة وخلقاً كريماً.
إنه من الشخصيات الوطنية بامتياز المشهود لها بالكفاية والاستقامة والنزاهة والتجرد والإخلاص في أداء الرسالة التي وقف نفسه لها، وتبتل على محرابها بغية خدمة وطنه وإعلاء شأنه وليس ذلك بمستغرب عنه ما دام يمثل فنناً من أفنان عائلة عريقة، هي عائلة الوطني الكبير يوسف العظمة شهيد الوطن السوري.

لم أتعرف الفقيد الكبير إبان عمله الوظيفي في الخدمات الطبية، ولكن يجمع عارفوه والذين عاصروه خلال تلك الفترة على أنه كان القدوة والمثال في الوطنية والأصالة والانتماء، والحدب على الفقراء وتقديم العون لهم، والإحساس العالي بالمسؤولية في حرصه على المصلحة العامة، وتحقيق العدالة بين مرؤوسيه والعاملين لديه في منأى عن أي اعتبار سوى رضا الله والوطن وراحة الضمير، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي القائل:
المجد والشرف الرفيع صحيفة
جعلت لها الأخلاق كالعنوان
وجدانك الحي المقيم على المدى
ولربّ حي ميت الوجدان
بيد أنني تعرفت فقيدنا في السنوات الأخيرة، فعرفت بعضاً من سماته النبيلة وسجاياه الحميدة، وكانت لنا لقاءات عدة ناقشنا فيها موضوعات مختلفة وتبدى لي رحمه الله من خلال تلك المناقشات أنه ذو شخصية متعددة المواهب، فلم يكن طبيباً للأجسام فقط، ومعالجاً لها من أوصابها، وإنما كان معالجاً للنفوس وتوهان العقول، وطالما أعجبت بآرائه ورؤيته للأمور، ولقفت رحيق الحكمة من خلالها، وهل ثمة حكمة أسمى من تأكيده أن نعمة المحبة هي من أروع النعم التي وهبها الله للإنسان، وأن المحبة والوعي وجهان لعملة واحدة، في حين أن الكراهية والغل والبغضاء كل أولئك ملازم للجهل والتخلف، ورحم الله الشاعر بدوي الجبل القائل:
ولا فوق نعماء المحبة جنة
ولا فوق أحقاد النفوس جحيم
فلتكن المحبة شعاراً لنا في حياتنا، وسلوكاً وأداء في جميع المواقف والأحايين المؤدية إلى إعلاء شأن الوطن وعزته وكرامته ورفعته، ولا يعد الإنسان إنساناً بكل ما تحمل كلمة إنسان من معنى ما لم يكن صافي القلب في محبته صفاء الغدير، وغيرياً في مساعدته للآخرين من المحتاجين.
وما أزال أتذكر تأكيده بإلحاح على وجوب احترام شعور الآخر وتمثل معاناته، وقد كرر ذلك في مواقف عدة منها في أثناء عيادتي له بمشفى دار الشفاء وبحضور ابنه الحبيب الطبيب الدكتور وائل.
ومن أبعاد شخصيته جودة الاستماع إلى الآخر، فقد كان يجيد فن الإصغاء وكأنه يطبق وصية سليمان الحكيم لابنه عندما نصحه قائلاً: «يا بني إذا تباهى الناس بحسن كلامهم فتباهى أنت بحسن استماعك»، فكان يستوعب ويتمثل ما يقوله الآخرون، ثم يبدي وجهة نظره بكل إيجاز، وطالما دعا إلى إعمال العقل في أطروحات الآخرين، فكان رحمه اللـه مجلياً في هذا المجال، ومجيداً في التعبير عن رأيه الحصيف، وفرحاً وباشاً عندما تظهر أمامه فكرة نيرة، فكان يستحسنها مؤيداً لها ومشجعاً، وما كان مجاملاً في أي موقف على حساب الموضوعية والتفكير العلمي والرأي السليم الذي ينعكس خصباً ونماء على الفرد والمجتمع.
كان رحمه اللـه معتزاً أيما اعتزاز بالجوانب المشرقة في تراث أمته العربية، والإشادة بما أسهم به العلماء العرب في مسيرة الحضارة البشرية، وكان شغوفاً بلغته الأم العربية الفصيحة، وطالما تغنى بجمالها وأبان بعضاً من سماتها وخصائصها ولطائفها عاداً إياها من أغنى اللغات في العالم.
ومما تجدر الإشارة إليه في شخصيته المتميزة دعوته إلى التفاؤل مهما تكُ المثبطات والمنغصات، وطالما آلمه وأرقه ما تعرض له وطننا الحبيب من إرهاب وتدمير على أيدي الظلاميين وذوي التكفير، وأبدى حسرته على المشافي التي دمرت، والمدارس والمنشآت التي هدمت، والأرواح التي زهقت إلا أنه كان متفائلاً على الدوام، ومؤمناً أن الحق لا بد له أن ينتصر، وأن الوطن سيتجاوز محنته لأن الصراع هو بين النور والظلام، والعلم والجهل، ولا يمكن للظلام أن يكون بديلاً من النور، ولا للجهل أن يكون بديلاً من العلم، لأن يد العلم هي يد اللـه، واللـه متم نوره ولو كره الكافرون.
وتعد تربيته رحمه اللـه أنموذجاً في بناء البشرية البناء المتوازن والمتكامل والمتطور من جميع الوجوه، ولا أدل على سمو هذه التربية من بناء العمارات البشرية التي أحسن بناءها، فها هو ذا ابنه البار الطبيب الدكتور وائل المتميز خلقاً وعملاً، وابنته البارة الرفيعة التهذيب الطبيبة الدكتورة أروى التي يضرب بها المثل في جديتها وتفانيها وإخلاصها في أداء عملها، وما كان لهذا البنيان التربوي أن يتسامى في علوه مناقب وفكراً ونزوعاً وأداء لولا الرعاية الحانية والحنكة العالية التي بذلتها ربة الأسرة الأم المثالية السيدة الفاضلة الدكتورة نجاح العطار رفيقة درب ماجدنا، وبذلها الأب الرؤوف الطبيب الماجد الأريب.
تلك هي أسرة فقيدنا الكبير المتسمة بالعراقة والإباء والأصالة والوفاء، وما من ريب في أن الوفاء من أسمى القيم وأنبلها فقد ظلت وفية للوطن قائداً وأرضاً، ومتشبثة بجذورها، ومتعلقة بترابها، ورافضة الاغراءات والمغريات، ومتمسكة بالحق، حق الوطن في الدفاع عن حماه، ورد كيد عداه، وضربت أروع الأمثلة في التمسك بالقيم، وتجيء في مقدمتها قيمة الوفاء.
رحمك الله أيها الماجد الحبيب الرحمة الواسعة، سعة ما قدمته من أيادٍ بيض عبر مسيرة حياتك، وما أنجزته من أعمال جليلة في خدمة وطنك وأمتك، وهنيئاً لك سيرتك العطرة التي يضوع عبير المسك إن ذكرت.
وهنيئاً لك ذكرك الحي المقيم على المدى والذي يعد عمراً ثانياً، وصدق شاعرنا عندما قال:
موت النقي حياة لا نفاد لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وتعازينا لأهلك الكرام وذويك ومحبيك وللوطن الذي أسهمت في بنائه أيما إسهام، وندعو الله أن يتغمدك بواسع رحمته ويسكنك فسيح جنانه، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان أمام فقدانك أيها العزيز الغالي.

عضو مجمع اللغة العربية
مدير عام هيئة الموسوعة العربية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن