قضايا وآراء

المطلوب منّا.. ومنهم

| د. بسام أبو عبد الله

شكلت زيارة وفد مجلس النواب الأردني إلى دمشق نقطة فارقة في العلاقات الأردنية السورية التي مرت عبر عقود طويلة من الزمن في أزمات عديدة، وتوترات مستمرة كان الأردن فيها للأسف ممراً دائماً يهدد الأمن القومي السوري، وهذا الأمر شهدناه كجيل في مرحلة الإخوان المسلمين أواخر السبعينيات، ومن ثم ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت لهذه العصابة الإجرامية معسكرات تدريب، ومراكز دعم لوجستي هناك، وتكرر الأمر مرة أخرى خلال سنوات هذه الحرب الفاشية على بلدنا، وشعبنا من خلال وجود غرفة الـ«مورك» التي كانت تدير التنظيمات الإرهابية في الجنوب السوري، وتؤمن الدعم المالي، واللوجستي لها بشكل مستمر.
ولأنه علينا الحديث بصراحة في هذه القضايا، والمسائل من دون مواربة، أو مجاملة، بعد أن دفع شعبنا، وجيشنا خيرة أبنائه، في مواجهة هذه الحرب الوجودية لتحرير أرضه من هذا النمط الفاشي من الإرهاب، وهذا النمط الجديد من الحروب، فإننا نتطلع إلى ضرورة أخذ الدروس المستخلصة من سنوات الحروب والدمار، والتطلع للمستقبل بدلاً من نبش خزائن الماضي المملوءة بالأحزان والخيبات وعدم الثقة، ولذلك فإن السؤال الذي يطرحه المواطن السوري، هو ما المطلوب منّا، وما المطلوب منهم، إن صح هذا التعبير؟
حينما فُتح معبر نصيب بين سورية والأردن تكشف الكثير من الحقائق أمامنا، ومنها أن الحرب على سورية، وحصارها أدى إلى محاصرة شعوب عديدة في المنطقة، وإلى تدهور اقتصادي في لبنان والأردن والعراق، وحتى دول الخليج التي دفعت ما فوقها، وتحتها معتقدة أن بقاء مشيخاتها مرتبط بدمار سورية، وسقوط نظامها السياسي، واتجه كيان الاحتلال الإسرائيلي لجني ثمار هذا التآمر الذي شاركت به للأسف أغلبية الدول العربية من دون أي فهم وإدراك من أن معركة سورية ضد الإرهاب الذي دعموه، تحمي في النهاية وجودهم وبقاءهم، ولذلك فإن فشل المشروع ضد سورية، وصمودها الأسطوري غيّر الكثير في معادلات المنطقة، وجعل العديد من الدول العربية يعيد النظر في مسائل عديدة بما في ذلك علاقتها مع دمشق، إذ ستشهد المرحلة القادمة تحولات كثيرة في المشهد الإقليمي تجاه سورية، ودعوني أشر إلى بعض المؤشرات:
– اللقاء السريع في أروقة الأمم المتحدة بين وزير الخارجية البحريني ووزير الخارجية والمغتربين السوري، والأهم ما قاله البحريني بعد اللقاء العابر على شاشة قناة «العربية» من كلام إيجابي تجاه سورية وحكومتها وشعبها.
– لا أعتقد أن سلوك الوزير البحريني منفصل عن الموقف السعودي الذي ظهر بشكل أكثر وضوحاً في كلمة ملك السعودية أمام مجلس الشورى السعودي، التي أكد فيها الحل السياسي في سورية ووقف التدخلات الخارجية في شؤونها.
– المعلومات الصحفية التي نشرها العديد من وسائل الإعلام العربية حول قيام دولة الإمارات العربية المتحدة بالإعداد لإعادة فتح سفارتها بدمشق، والتي علق عليها نائب وزير الخارجية السورية فيصل المقداد من أن هذا القرار هو إماراتي، ودمشق ليست معنية بالإعلان، أو التعليق على ذلك، وأبو ظبي هي المعنية بالإعلان عن هذا الأمر.
وإذا كانت هذه المؤشرات العديدة إيجابية، فإن هناك مؤشراً آخر برز خلال زيارة وزير الخارجية العراقي السابق إبراهيم الجعفري إلى دمشق، وهو الحديث عن وقف تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية، الأمر الذي ردت عليه دمشق بالقول: على الذين اتخذوا هذه الإجراءات أن يرفعوها أولاً، ومن ثم ستدرس دمشق الخطوة التالية بعد ذلك.
من الواضح تماماً أن انتصار سورية الكبير كان له أثر زلزالي ليس على المنطقة فقط، وإنما على صعيد العالم، ولكن تبقى هناك أسئلة مطروحة لدى الرأي العام السوري لابد من الإجابة عنها بوضوح وشفافية، ومنها مثلاً هل نيات الأطراف العربية هي صادقة، أم هي تعبير عن الفشل الذريع الذي منيت بها المخططات التي تورطوا بها ضد سورية وحلفائها؟
بوضوح شديد لا مكان في السياسة للنيات والعواطف حتى لو سمعنا خطابات رنانة عن الأخوة والمحبة وعلاقات الأشقاء لأن ذلك لن يقنع أي مواطن سوري بعد الثمن الباهظ الذي دفعه من دمه وحياته وبعد الآلام الفظيعة التي عاناها كل واحد منا، وبعد آلاف الشهداء العظام الذين دافعوا ليس عن سورية فقط إنما عن المنطقة كلها، لا بل عن العالم أجمع، لكننا في السياسة واقعيون، ولسنا طوباويين فالسياسة السورية كانت دائماً حكيمة، ومتزنة وتحسب مصالح شعبها بدقة متناهية، وضمن الخيارات المتاحة، ومن هنا فإن رجوع هذه الدول عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها بشكل تدريجي هو أمر ستلاقيه دمشق بإيجابية، وتتعامل معه على هذا الأساس حسب ما نفهم السياسة السورية، ولن تغلق دمشق بواباتها في وجه أحد، ولكن شرط أن تكون هذه العودة من أجل مستقبل أفضل لدور وشعوب المنطقة قطعاً.
هنا لا شيء على حساب شيء آخر، فالعودة التدريجية للعلاقات مع دول الخليج مثلاً لن تكون على حساب العلاقات التحالفية القوية مع إيران، بل بالعكس فإن دمشق لعبت دائماً دور الجسر الواصل بين إيران والخليج، وعملت على نزع فتيل الانفجارات والتوترات التي لا تخدم أي عاقل في المنطقة.
لقد أكدت دمشق بشكل متكرر أن هز الاستقرار في أي دولة عربية سينعكس سلباً على أمن واستقرار الدول الأخرى، والتجربة التاريخية أثبتت ذلك، فما حدث في العراق هز المنطقة، وفي لبنان كذلك، وفي سورية مؤخراً، وفي اليمن، وبالتالي فإن الأمن القومي هو سلسلة مترابطة وواهم من يعتقد أنه بتدمير جاره، أو شقيقه إن شئتم فسوف يحقق أمنه واستقراره، وها هي الأحداث والحروب التي ضربت المنطقة خلال العقد الأخير أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك صحة هذه النقطة الجوهرية، وعلى الجميع ممن يملك قراره أن يتعلم، ويأخذ دروساً وعِبراً لأن الحروب والتآمر سوف ترتد على مشغليها ومهندسيها وداعميها.
إن المطلوب منهم هو التوقف عن دعم الإرهاب ومشاريع التقسيم والتفتيت، والعمل على بناء المصالح الاقتصادية المشتركة كي لا نذهب باتجاه العواطف والمشاعر، لأنها مفيدة ولكنها لا توصل إلى نتيجة في العلاقات بين الدول حتى لو كانت شقيقة، أو غير شقيقة، فالأمن والاستقرار أساسان للتنمية والازدهار، حيث يجب أن تكون العنوان البارز لعملنا ونشاطنا المستقبلي.
أما المطلوب منا فهو تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية لأنها الجبهة التي اخترقنا منها، وساعتئذ لن نخشى أحداً في المستقبل، فالقوة الحقيقية هي القوة التي تستند إلى الداخل، وإلى إرادة شعبنا الذي أثبت للأشقاء والأصدقاء أنه شعب عظيم ويستحق الحياة، وسيبقى مرفوع الرأس لأنه حقق معجزة بانتصاره التاريخي، وهذا هو السبب الأساسي لبدء عودة الكثيرين عن الأخطاء.
والخلاصة أنه لا نيات طيبة أو سيئة في السياسة، إنما هناك مصالح سورية تعرف دمشق كيف تصل إليها وتحققها، ويكفينا فخراً أننا أدرنا حرباً قاسية ببراعة وشجاعة وحكمة، وها نحن نحصد النتائج بالتدريج، فأرجو من كل مواطن سوري أن يثق بالسياسة السورية، وأن يتأكد أن دماء شهدائنا العظام تُثمر تحريراً وانتصاراً ورأساً مرفوعة، فالتحية الأولى والأخيرة للشهداء وأسرهم وأهلهم، ولجيشنا العظيم الذي غَيَّرَ معادلات المنطقة وفتح بواباتها من جديد، أحبَّ البعض ذلك أم لم يحبوا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن