في إحدى القمم العربية، وكما يملي على الصحفي واجبه المهني، تسللت لقاعة اجتماعات وزراء الخارجية العرب. كان الاجتماع تمهيدياً للقمة التي تلتئم بعد يوم، فدخلت بعد دقائق من انفضاضه وزميل لي، وجلنا بين مقاعد الوفود بحثاً عن ملف منسي، أو ورقة مهملة، وكل ما يمكن أن يكشف معلومة مفيدة.
كانت القمم العربية عموماً مملة وما زالت. وسواءً اتفق فيها على شيء أم لم يتم الاتفاق، فإن قدرة التعطيل موجودة، خارجها وهي أقوى بكثير من أي قوة أخرى. لكن صحفنا وتلفزيوناتنا كانت تطلب كلاماً بغض النظر.
أثناء بحثي، وكنت وصلت قبل غيري إلى مقاعد أحد الوفود العربية، كان الوفد قاد تحركاً على عجلة، ملاحقاً رئيسه، ما سمح لبعض الوريقات بالتسلل بين الكراسي. جمعت ما وجدته من هذه القصاصات، وتمعنت فيها. كان حواراً دائراً بين بعض أعضاء الوفد والوزير، حول تفاصيل تقنية من موضوع الاجتماع، لكن الصدمة لي لم تكن بموضوع النقاش، فهو كما قلت عادة لا يذهب بعيداً، وإنما طريقة ذلك النقاش. فمجمل الحوار المتوزع على القصاصات هو تداول بين الوزير العربي ومساعديه باللغة الإنكليزية.
هنا في قاعة اجتماع وزراء الخارجية العرب، ذات القبة الحمراء الواسعة، بالإضاءة الحارة الموجهة للشعار المنقوش في صدرها، عن اجتماع العرب قادة وزعماء، لبحث مصير الأمة، وما إلى ذلك من بقية الموشح الرسمي.
ظلت هذه التجربة ماثلة أمامي، دوماً، وشيئاً فشيئاً تراجع اتهامي لهذا الوفد، الذي يتحاور باللغة الإنكليزية، في قضايا العرب مثل أي مراقب أجنبي، أو متدخل غربي بالأحرى. مع الوقت تبين لي أن هذا التقمص السطحي ليس معزولاً، ولا مرتبطاً بدولة دون غيرها، أو نظام سياسي معين.
والآن، مع هذا الانفتاح العربي السريع، غير المشروط نحو إسرائيل، يتجلى أكثر أن أصل الانحدار هو ذاته، وهو ليس هزيمة حقيقية بقدر ما هو نتيجة لهزائم متتالية، دارت فينا دوران دولاب متحرر من عربته. توقفه هنا عند هذه النقطة ليس سوى النتيجة الطبيعية لما وصلنا به من تقهقر ثقافي.
لماذا ثقافي؟ نظرة عميقة لصور زيارات المسؤولين الإسرائيليين الأخيرة لتلك البلدان واستقبالاتهم، بمن فيهم الرياضيون، وتحديداً النسوة بينهم، تظهر من دون الحاجة إلى خبراء نفسيين مهرة مستوى الفارق في التحضير التربوي والنفسي والثقافي الذي بين الطرفين.
هل هذا مبالغ فيه؟ في وقت من الأوقات، منذ عدة أعوام فاخر مسؤول عربي بأنه ضاجع مسؤولة إسرائيلية كبرى في قضية تناولتها الصحف وقتها المسؤولة التي لم تقدم نفسها مجاناً، حصلت على غايتها الرسمية، إن صح التعبير.
في الوعي العربي، ما زالت الأغلبية ربما تنظر للرجل، باعتباره فاتحاً (فيها شيء من الرمزية) لا مهزوما في هذه الحادثة بالذات.
النظرة ذاتها تشاهدها في لقطات كثيرة لاحقة ومتداولة، فنشأتنا الثقافية بشكل عام، معنية بهذه القضايا الصغيرة، ولكن تحت شعارات كبيرة رنانة طنانة. وبالطبع، هنالك أمثلة أخرى تتعدى، موضوع الكبت الجنسي، والهشاشة الشخصية، وتقمص الآخر المتفوق كما في حالة الوفد العربي المتأنكلز.
الثقافة تحتاج إلى دهور من البناء، وهي ليست التصور الرائج عن شباب يقضون وقتهم في المكتبات، بل طريقة تفكير، ونمط حياتي، يقوم على بناء شخصية متجردة من الأوهام، تعرف نفسها أكثر، حدودها وإمكانياتها، وتبني عليه مستقبلها.