قضايا وآراء

التفكير النقدي

| د. بسام أبو عبدالله

كنت في حوار قبل أيام مع الصديق د. عدنان نقول، الذي هاجر إلى الأرجنتين قبل أكثر من عشرين عاماً، وتابع دراساته العليا هناك، وحصل على الدكتوراه وأقام في تلك البلاد، وقد أرسل لي ملخصاً مهماً لفت نظري حول «المنتدى العالمي الأول للتفكير النقدي، ومناهضة النيوليبرالية والعولمة» الذي عقد في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس خلال الفترة ما بين «20-25 تشرين الثاني الحالي 2018»، وجاء هذا المنتدى قبل أيام من انعقاد قمة العشرية نهاية الشهر الحالي في الأرجنتين أيضاً، وقد شارك في هذا المنتدى العالمي المناهض للنيوليبرالية والعولمة والتوسع الرأسمالي المتوحش نخبة من القادة في أميركا اللاتينية منهم الرئيسة الأرجنتينية السابقة كرستينا فرنانديز دي كيرشنير.
وللتذكير فإنها الرئيسة التي تم قطع بث كلمتها في الأمم المتحدة لأنها هاجمت مقاربة أميركا والغرب عموماً للحرب على سورية، وقضية الإرهاب، والرئيسة البرازيلية ديلما روسيف، وممثلين عن دول أميركا اللاتينية ومجموعة دول الكاريبي، ومجلس أميركا اللاتينية للعلوم الاجتماعية وقادة للرأي من مختلف دول العالم، ومثقفين، وسياسيين وكتاباً، وفنانين، وشعراء، وقادة حركات اجتماعية، ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، وطلاب جامعات من جميع فروع الاختصاصات.
يبدو واضحاً أن القوى اليسارية، والتقدمية في أميركا اللاتينية تريد عبر هذا المنتدى البدء بإعادة تنظيم صفوفها، وترتيب أولوياتها بعد الهزائم الانتخابية المتتالية في الأرجنتين، والبرازيل والضغوط الكبيرة التي تمارس على فنزويلا ومحاولات تغيير الأنظمة بأدوات شتى الذي تعمل عليه الولايات المتحدة الأميركية.
وقد أشار العديد من المشاركين في هذا المنتدى إلى الطابع الحواري والنقدي، والتأملي له، بهدف الوصول إلى مشتركات تساعد في التغلب على الحروب، والخوف، والإحباط وخيبات الأمل، وعلى الحاجة الماسة لتنظيم الصفوف والتوحد على صعيد أميركا اللاتينية.
في المنتدى، بحثوا قضايا أخرى منها آليات عمل السلطات القضائية التي تحولت في بعض الدول إلى تنفيذ أجندات سياسية كما حصل في حالة الرئيسة ديلما روسيف في البرازيل، وحالة الرئيسة كرستينا فرنانديز دي كيرشنير في الأرجنتين المهددة بالسجن، إضافة إلى تزايد خطر التدخل الفاشي الاستبدادي في العملية السياسية في تلك البلدان تماشياً مع ظاهرة ترامب اليمينية وإدارته، التي تسعى إلى تعزيز مواقع اليمين العنصري المتطرف حول العالم، وهو ما برز من خلال الدعم المكشوف للرئيس البرازيلي الجديد بولسونارو.
الاستناد إلى التفكير النقدي هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن صاحب النظرة المتوازنة من الإشارة إلى الأخطاء بهدف عدم تكرارها، وتفاديها مستقبلاً، والتعرف على الإيجابيات بغية تعزيزها، وتطويرها والبناء عليها.
ومن الواضح تماماً أن القوى اليسارية والتقدمية في أميركا اللاتينية، التي حققت إنجازات اجتماعية واقتصادية لمصلحة الفقراء، وطبقات المهمشين تعيد عبر هذا المنتدى قراءة تجربتها في سني الحكم والسلطة بهدف الإضاءة على السلبيات، وتجاوزها، وقد كان أحد أخطر هذه السلبيات حسب الكثير من التقارير هو الفساد، والإثراء غير المشروع الذي استشرى بشكل كبير، وكان لذلك أثر كبير حسب قول، صديقي في الأرجنتين، في تراجع شعبية قوى اليسار، وسقوطها عبر صناديق الاقتراع.
إن أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة اليسار اللاتيني هو أنه كان هدفاً للولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها داخل هذه البلدان، ولكن نجاح واشنطن في إسقاط هذه التجارب عبر دعم قوى اليمين صحيح أنه استند في جزء كبير منه على الضغط الاقتصادي، وتشويه الصورة في وسائل الإعلام، وتسخير السلطة القضائية كجسر لإسقاط رؤساء دول أميركا اللاتينية، وملاحقتهم قضائياً، وسجنهم عقاباً لهم على سياساتهم الاجتماعية والاقتصادية من جهة، وكذلك سياساتهم الخارجية الداعمة لقضايا الشعوب العادلة، لكن الصحيح أيضاً أن انتشار الفساد قد لعب دوراً أساسياً في تمكين واشنطن وحلفائها من إسقاطهم الواحد تلو الآخر، ليس لأن واشنطن تدعم النزاهة، والشفافية، ولكن لأن واشنطن تبحث دائماً عن نقاط ضعف خصومها، وأعدائها، من أجل مهاجمتهم، وخاصة أن هؤلاء الخصوم أتعبوها كثيراً وشكلوا حالة جديدة وظاهرة عالمية بدءاً من الراحل هوغو تشافير، إلى رئيسة الأرجنتين دي كيرشنير إلى رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وقبلها الرئيس لولا داسيلفا.
الأمر الآخر المهم بالنسبة لنا أن علينا أن نقرأ هذه التجارب العالمية لقوى سياسة قريبة منّا بالمبادئ، والمصالح لنتعلم منها، ونأخذ دروساً، وعبراً، ومن هذه الدروس والعبر أن من واجبنا الحفاظ على مكتسباتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك تعزيز دور القطاع العام في المجالات الاقتصادية الإستراتيجية، وإطلاق الشراكات مع القطاع الخاص، وتعزيز دوره بما يخدم قضايا التنمية والتطور داخل سورية، لأن ما كان مستهدفاً في سورية ليس فقط السياسات الخارجية والدور المحوري، ولكن أيضاً السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي حمت فئات واسعة من الشعب السوري وخاصة في قطاعي التعليم والصحة.
أما الأهم فهو إطلاق «التفكير النقدي» بالنسبة لتجاربنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأننا بصراحة نحب دائماً أن نتحدث عن الإنجازات، وهذا حق طبيعي ولكننا نشعر من خلال ما تربينا عليه أن «النقد» و«التفكير النقدي» أشياء ليست محببة، وغير شائعة في خطابنا السياسي، ولا يحبها المسؤولون لدينا، وقد يكون السبب في ذلك أن كثيرين منا لا يتقنون «التفكير النقدي» لأننا نخلط دائماً بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية ونبتعد كثيراً في نقدنا عن قضيتين أساسيتين وهما: العملية والموضوعية كي يستوي النقد على قدمين ويتوازن.
قد يقول قائل إننا لم نمتلك البيئة السياسية المناسبة لإطلاق ونمو هذا النمط من التفكير في مجتمعنا ولكن على حد علمي فإن مؤتمرات حزب البعث وحدها كانت تضج كثيراً بالأفكار الناقدة لمظاهر الخطأ بهدف تصويبها، وغيرها من المؤتمرات النقابية والشعبية.
في كل الأحوال لسنا بصدد الحديث عن الماضي الذي يجب أن يقيم دائماً ضمن ظروف التطور الداخلي والإقليمي والدولي، وما حققه لنا من مكتسبات عديدة وليس من منظار القرن الحادي والعشرين، فالحياة في حالة تطور دائم لا تتوقف، وحركة التاريخ تسير للأمام دائماً، وعلينا أن نقرأها بشكل صحيح، وخاصة النبض الحقيقي لشارعنا، ومن دون «التفكير النقدي» لا تقدم للأمام، ولا تجاوز للأخطاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن