أعرف الفنان عباس النوري منذ اثنين وأربعين عاماً عندما قدمه أبهى أبناء جيلنا المخرج المسرحي الكبير فوار الساجر في مسرحية «رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلم»، التي قام بتفصيحها الشاعر بندر عبد الحميد عن نص بالمصرية الدارجة للكاتب محمود دياب وقدمتها فرقة مسرح جامعة دمشق على مسرح الحمراء عام 1976.
ونظراً لأنني أكنّ لهذا الفنان الكبير مودة عميقة أجد لزاماً عليَّ أن أتوقف عند ما جاء في حديثه الإذاعي الذي بث مؤخراً في برنامج (المختار) للإعلامي باسل محرز على هواء المدينة إف إم، وخاصة كلامه عن شخصية صلاح الدين الأيوبي الذي أثار ردود فعل متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما يلزمني بذلك هو أنني سبق أن كتبت الخط المعاصر من مسلسل «البحث عن صلاح الدين» كما كتبت سيناريو الفيلم الوثائقي «رؤيا لصلاح الدين» وكلاهما من إخراج المبدع نجدة إسماعيل أنزور. لهذا أستطيع القول بكل وضوح إن المعلومات التي جاء الفنان عباس النوري على ذكرها لم تكن بجديدة علي، إذ إنني قبل الكتابة عن صلاح الدين، لم أغفل مرجعاً تاريخياً طالته يدي عن مرحلته وشخصه، غير أنني تعمدت تجاهل تلك المعلومات التي تعامل معها الفنان عباس النوري كما لو أنها اكتشاف خطر، لقناعتي بأنها ليست جديرة بالذكر إذا ما نظرنا إليها من خلال المنجز الكبير الذي حققه هذا القائد البارز خلال حياته، وما شجعني على تجاهل تلك المعلومات هو ورودها في مراجع تفوح منها رائحة عنعنات كريهة، كنا ولا نزال بغنى عن الوقوف عندها.
لهذا قلت بوضوح في الفيلم القصير الذي كتبته عن صلاح الدين إنه: «كان مثالاً حياً حتى في موته، فلم يترك شيئاً خلفه لتغطية نفقات جنازته، لا مالاً، ولا بيوتاً، ولا ممتلكات. ورغم أن صديقه القاضي الفاضل دفع ثمن الكفن والنعش وقطعة القماش البسيطة لتغطية جثمانه، إلا أن أهل صلاح الدين استدانوا ثمن القش والآجر اللذين بهما تم تحديد قبره!
كان صلاح الدين يمجد الحياة البشرية، فقبل موته نصح ابنه الظاهر قائلاً: «اكسب قلوب شعبك وأمرائك ووزرائك… إن ما وصلت إليه كان باللطف والمراضاة. احذر من سفك الدماء، ولا تطمئن إليه، فالدم المسفوح لا ينام»!
لست أختلف مع الفنان عباس النوري في أنه بات من الضروري «إعادة بناء الكثير من المفاهيم التي تربينا ونشأ وعينا وشخصياتنا الوطنية عليها، ومنها مفاهيم جاءت من التاريخ الإسلامي والعربي عموماً ولا يجوز اقتطاع وبتر جزء على حساب الكل على طريقة (ولا تقربوا الصلاة…) دون تتمة».
وأنا إذ لا أشك بحسن نيات الفنان عباس النوري إلا أنني أود أن ألفت انتباهه إلى أن إعادة بناء المفاهيم شيء والتشكيك بالرموز شيء آخر، وخاصة أننا نمر بحالة استقطاب وشد عصب نتيجة الحرب التي تشنها الفاشية العالمية على وطننا السوري منذ سنوات.
في الختام أود أن أورد عبارة من كتاب «هكذا تكلم أمبرتو إيكو» الذي يضم ثمانية وعشرين لقاء صحفياً جمعها وترجمها الشاعر إسكندر حبش وصدرت عن دار ورد في دمشق. وإيكو، لمن لا يعرفه، هو من أبرز العقول التي أنجبتها البشرية في القرن العشرين، فهو عالم سيمياء وروائي ومؤرخ وفيلسوف وباحث وأستاذ جامعي وصحفي وعازف فلوت، وهو لا يجارى في كل ما سبق.
يسأل محرر جريدة الفيغارو أمبرتو إيكو: هل كان ابن لادن يشكل صلاح الدين معاصراً فيجيب بلهجة قاطعة: «أبداً، كان صلاح الدين رجلاً مستقيماً ذا كرم استثنائي ولم يكن متعصباً. حين فتح الصليبيون القدس قاموا بذبح الجميع، العرب، اليهود… أما حين استعاد صلاح الدين المدينة، فقد عفا عن أغلبية المسيحيين باستثناء فرسان الهيكل، وهذا أمر مفهوم».
أجل، لم يخطئ الفنان عباس النوري في مطالبته بإعادة بناء المفاهيم، لكنه لم يحسن اختيار المثال مع الأسف. غير أن هذا لا يسوغ حالة الهستيريا وقلة الأدب التي يتعرض لها في مواقع التواصل الاجتماعي.