ثقافة وفن

هزوان الوز في «معرض مؤجل» أمام الأزقة الخلفية للمجتمع … تشريح خبير للمؤسسة الدينية والسياسية والاجتماعية في سياق ثقافي راق

| إسماعيل مروة

أول ما تبادر إلى ذهني أن أمسك بيدي الجزء الثاني من ثلاثية الصديق الدكتور هزوان الوز (معرض مؤجل) الذي يحمل عنوان اللوحة الضائعة، بعد الجزء الأول للوحة الناقصة تبادر سؤال: ترى لو لم يكن وزيراً ما مكانته الروائية؟ وهل تأثرت مكانته السردية بموقعه؟ والجواب كان حتمياً، فالدكتور هزوان قصصي وروائي متدرج في وصوله إلى هذه المكانة، ولم يبدأ النشر بعد توليه المواقع، فهو من قبل قصصي مشارك في المسابقات والملفات، ويعدّ واحداً من القصاصين الذين دأبوا على القص وخدموه، وبعضهم يحاول أن يتجاهل ما أنجزه، ليبدأ إنجازه عندهم بعد أن تولى المواقع المهمة، وكل زعمهم أن صاحب الموقع يجب ألا يملك مؤهلات أو رؤية أو أي شيء مما يمكن أن يميزه!

الاختمار في التأجيل
بعد روايته عن دمشق، تفرّغ هزوان الوز لإنجاز مشروعه المتمثل في ثلاثيته (معرض مؤجل) صدر الجزء الأول، وكنت أظن أن الجزء الثاني سيستغرق وقتاً لكتابته، لكن الجزء الثاني صدر في وقت قياسي، ما يدل على أمر مهني وتقني غاية في الأهمية، وهو أن مادة الرواية بأجزائها الثلاثة مكتملة بين يديه، وأن هذا المشروع كان جاهزاً وفي مراحل الاختمار والصنعة الفنية في تكتيك الرواية… والرواية التي صدرت بقسميها الأول والثاني عام 2018 وفي الحرب على سورية، ليست رواية وليدة الحرب، وليست رواية حرب وشعارات، فهي أوراق عمر، ولكن الحرب ربما شكلت دافعاً للإنجاز والطباعة، وعند العودة إلى الرواية نشتم روائح الحرب والدمار، لكننا لا نقف عند تصوير الحرب، فحقق معادلة صعبة تجعل روايته رواية فنية بالدرجة الأولى، وليست رواية دعائية أو آنية، وكما كان الجزء الأول (اللوحة الناقصة) جاء الجزء الثاني (اللوحة الضائعة) لرسم تفاصيل المجتمع السوري بكل تفصيلاته السياسية والأيديولوجية والتربوية والدينية والاجتماعية، من الأحياء الراقية إلى العشوائيات، من التوجيهات الدينية إلى قراءة تفاصيل الجسد، من قاع المجتمع الفقير جداً إلى طبقة المسؤولين والتجار، من رؤية الفن ورسالته، إلى رؤية الفن سبيل زينة، من تربية الذائقة الفنية المجتمعية إلى الانقياد إلى غرارة النظرة وأميّة القراءة وتحكم المال، من تدني الذائقة النقدية إلى تراجع النص الأدبي من لينين إلى رجل الدين… رحلة في هذه التشعبات تبرز الأسباب التي جعلت المجتمع السوري مستسلماً للحرب الظالمة التي طالته خلال هذه السنوات القاسية.

النص والمستند
في روايته عن دمشق بدأ هزوان الوز تقنيات في استلهام النصوص القديمة، وربما كان ذلك من إيمانه بأن الرواية هي التأريخ الحقيقي، وأن النص الأدبي هو الأساس الصادق، لذلك هرع إلى النص الأدبي ومدلولاته، ليسجل نصاً سيتحول إلى توثيق وتأريخ لهذه المدينة التي أحبها، وها هو في روايته «معرض مؤجل».
يتابع سيرته الأدبية والروائية، ويعتمد مستندات عدة تحافظ على منهجه في تشريح البنى المؤثرة في المجتمع الدمشقي والسوري من خلال مجتمع منغلق في القابون حيث التقت الشرائح ليصل إلى مختلف الزوايا الاجتماعية والسياسية والدينية، وتفصيل ذلك فيما يأتي:

المؤسسة السياسية
عمل الروائي على المؤسسة السياسية بجميع أطيافها وانتماءاتها فقد اختار في الجزء الأول من ثلاثية البيئة الماركسية العقيدية الأصيلة من خلال الأب اللينيني بكل ميوله، وذلك ما يناسب ميوله الطبقية البسيطة، وبقي هذا الأب على مبادئه من البداية، ولم يغير فيه شيئاً تبدل الماركسيين وانتهاء الثورة التي وعد بها وهي المتمثلة بلينين، ولم يعنه على الإطلاق أن يتحول جثمان لينين إلى متحف، ومن ثم إلى إهمال! وفي هذا الجانب برع الكاتب، وهو الذي عاش الحقبة السوفييتية في الاتحاد السوفييتي في نقل مجموعة الأحاسيس والأفكار القائمة على التضاد بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين النظرية والتطبيق، كما برع في تصوير الهوة السحيقة بين حملة الأفكار الحقيقيين، والمستثمرين الذين استثمروا هذه الثورة ومبادئها لغايات شخصية بحتة، ولأن رؤيته ممتدة عبر الزمن وليست مقتصرة على وقت وجانب، فقد اعتمد على التراخي الزمني في الحدث ليقدم رؤية ما بعد، ولم يكتف بالحديث عن التيار الماركسي، بل امتد في معالجته إلى التيار القومي والتحرري، وخاصة بعد وصول هذا التيار إلى السلطة، وفي السلطة رسم تباينات تقوم على الممارسة، ولا تقوم على قراءة الهوة التنظيرية التي كانت في الجانب الماركسي، وذلك من خلال تناول شريحة المسؤولين الكبيرة التي استمرأت التغيير على الواقع، الذي طال الجوهر من دون أن يكون جوهرياً، فنحن أمام طبقة من السياسيين الذين انسلخوا عن حيواتهم الأولى، وتركوا مجتمعاتهم الأولى، ولم يقتربوا من مظاهر التحضر والفكر إلا عن طريق المظاهر الفارغة، وقد أجاد في إبراز التناقضات المرة بين المكانة والتربية والذوق، وقد ساعده على ذلك معرفة كبيرة بالجوانب الحياتية والتربوية، إذ صور ببراعة مطلقة انسياق المؤسسات وراء رغبات مجموعة من هؤلاء الذين لم يتمكنوا من المشي الجديد، ونسوا مشياتهم القديمة، وخاصة في النظرة الفنية والتربوية، وعند كل مشهد سيتذكر أحدنا بعض أبناء هذه الطبقة الذين يشكل الفن التشكيلي عندهم زينة بيتية وحسب، لا ضرورة للفن ونظرته بقدر ضرورة أن يكون الأمر مناسباً لأذواقهم، والمفارقة في أن هؤلاء لم يتمكنوا من قراءة الواقع الجديد، ولم يتمكنوا من تثقيف أنفسهم والقراءة السليمة، بل أرادوا للفن والرؤية أن ينساقا لهم بالقوة والحاجة!
مفارقات مهمة يعتمدها هزوان الوز في تصوير الطبقة السياسية المتحكمة والقادرة على إدارة الحياة السياسية والاجتماعية، وهم أنفسهم الذين تسللوا إلى إفساد العملية التربوية، التي لا تقف عند حد معين، ولا تقتصر على إفساد طالب أو مدرس بل تعمل على إفساد جيل كامل، وزرع بذور الحقد والكراهية وببراعة الخبير صوّر الطبقة السياسية، وهي تعمل على أمرين مهمين:
الأول: عزل أبنائهم عن سائر الطلبة من خلال الحديث عن السيارات والمرافقة والحضور إلى المدارس بشكل خاص، ما يؤدي إلى حرمانهم من الاطلاع على الحياة والناس والزملاء، وقد عبّر بعض هؤلاء عن رغائبهم لأستاذهم بأن يكونوا مع رفاقهم، وأن يزوروهم، وأن يمشوا معهم في الطرقات والحارات، وأن يمارسوا الحياة الطبيعية التي تشبه حياة أجدادهم الذين قصروا الريف على قنّ الدجاج والتنور، وبذلك خسر هؤلاء الأطفال طفولتهم، كما خسروا التواصل مع مجتمعاتهم، وأصبحوا وحيدين.
الأمر الثاني تمثل في خلق بون طبقي بين الطلبة، وهذا البون غير حقيقي، لذلك بني على الكره والحقد الذي سيتمثل فيما بعد على الأرض، ويخلق بيئة غير متجانسة، أدهى ما فيها أنها مبنية على رؤية ثورية في الأساس، وقد انطلقت رداً على الطبقية التقليدية، ورداً على ظاهرة التمايز المعروفة في المجتمعات ما قبل الثورية، وهذا ما جعل الماركسي يحنّ إلى مجتمع كان يرفض ما فيه، لكنه اكتشف مقدار صدقه في التعايش والعيش، تمثل في الحي الفقير، حي القابون الذي اجتمع أبناؤه لبناء بيت للماركسي المسيحي الذي ينتمي إليه الفنان، إن الإرهاصات التربوية القائمة على الجهل بجملتها، والمستندة إلى طبقية جديدة هي التي هيأت لكثير من الرفض والفوضى، وإن كان من قام بها مجموعة من المستغلين للأفكار السامية والثورية.

المؤسسة الدينية وتناقضاتها
في اللوحة الناقصة، ومن ثم في اللوحة الضائعة رسم هزوان الوز معالم المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية على السواء، وقد أفاد من إقامته في الاتحاد السوفييتي ومن انفتاحه الفكري في تقديم صورة حقيقية من الصعب على أحد أن يرفضها، ففي البدء لم ينطلق الكاتب الروائي من نظرة عدائية للمؤسسة الدينية، وإنما انطلق من قراءة الواقع وما يجري ليضع بين أيدينا ترهل هذه المؤسسة على اختلاف الشريعة، فقد وقفنا سابقاً عند نماذج من المؤسسة الإسلامية في حي القابون، خاصة عند النقاشات الفكرية العميقة والسطحية على السواء، وفي الجزء الثاني نقف أمام المؤسسة المسيحية والمظهرية من خلال فتح الكنيسة لعقد قران البطل المسيحي الثوري الذي أخبرته العادات والتقاليد أن يدفع كل مدخراته من أجل مراعاة الطقوس، وكما وجدنا في المؤسسة الإسلامية نجد في المسيحية، حيث لكل مظهر من المظاهر ثمنه الذي يستحقه، فالكنيسة بخوري ثمن، وباثنين ثمن آخر، ومع مطران يختلف الأمر، ومع البطريرك يختلف بصورة جذرية، من دون مراعاة للمهمة التي وجد من أجلها رجال الدين وعلماؤه لخدمة الرعايا، وكم المفارقة مؤلمة بين توفير أغراض الحياة والبيت بالتقسيط، لتكون نفقات الكنيسة نقداً، وإلا تكلم الناس على العروسين وأهلهما.. والمفارقة في أن الجميع ينساق لهذه السلطة ولا يتمرد عليها وعلى شروطها إتماماً لمرحلة من حياة..!
وفي كل مجال من المجالات كان الوز يعود إلى نصوصه المختارة والمناسبة لكل مقام، فهذا نص عن لينين ومكانته، وذاك نص عن الكهنوت، وثالث نص عن دمشق، وما بين البديري الحلاق ونجاة قصاب حسن رحلة طويلة ماتعة ومؤلمة يمارسها الكاتب ليزرع المفارقة في جوهرها.. هذه المفارقة التي تجعل الجميع شركاء في تشكيل لوحة ناقصة لوطن، ولوحة ضائعة لإنسان، هذه المشكلات التي تجعل المعرض مؤجلاً ما بين الانجرار إلى الخلف سياسة واجتماعاً وتربية وعقيدة، وما بين السمو إلى فان كوخ وموتزارت، وأحدث نظريات التربية في الدمج والتربية المتناغمة والواحدة لكل الطلبة.
رواية الصديق الروائي هزوان الوز «معرض مؤجل» بقسميها الأول والثاني رواية ماتعة ومؤلمة، صادمة وصادقة، ومن حقه وإن كان وزيراً أن يفاخر بإنجازه الأدبي المميز، الذي كنت أود أن أقول فيه الكثير لولا ظرف صحي طارئ وربما أعود إليها للغوص في التفاصيل الفنية والتكنيك الروائي والشخصيات ومستنداتها التاريخية والواقعية، وقد وضعت لذلك خطوطاً للحديث فيها، لكن واجب الإعجاب بالنص الروائي دفعني لتدوين ملاحظات وقراءة أولية، اعتمدت القراءة الأولى التي يتعذر أن تعاد في هذه المرحلة، فله التحية ولنصه كل التقدير ولجرأته المتناهية يقف القارئ باحترام كبير، وهو الذي يعالج أموراً بمنتهى الصدق والموضوعية ولا يمنعه من ذلك أنه أعلى هرم هذه المؤسسة التي من الممكن أن تكون منطلق سورية الجديد، وأن يتم عقد المعرض، وأن ينتقل من التأجيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن