الأولى

نهاية الغرب

| تييري ميسان

قرر الرئيس جورج بوش الأب، إبان حل الاتحاد السوفييتي تسريح مليون من جنوده، ووقف ترسيخ موارد البلاد للحرب، وتخصيصها للازدهار الاقتصادي. وهكذا تخلى عن مخطط الهيمنة، لينصب الولايات المتحدة زعيمة لعالم أحادي القطب.
لهذا السبب نظم عملية عاصفة الصحراء، ليس لمساعدة الكويت بكل تأكيد، بل لجمع أضخم تحالف دولي ممكن تحت قيادته، وضم الاتحاد السوفييتي إليه.
وهكذا أيضاً، أطلقت واشنطن العنان للرأسمالية منذ ذلك الحين. لكن هذا ليس مشروعاً سياسياً، بل منطق لكسب المال. بعد ذلك، تحالفت الشركات المتعددة الجنسيات الأميركية مع الصين الشعبية، التي انفتحت لتوها على الغرب، لتمتعها بأرخص يد عاملة في العالم.
وفي غضون ثلاثين عاماً، كان الغرب خلالها يتراجع صناعياً، على حين كانت تنهض المصانع في الصين أولاً، ثم في جميع أنحاء آسيا.
وبينما كان العديد من الطبقات الوسطى يتشكل في الشرق الأقصى، كانت الطبقات الوسطى الغربية ذاهبة نحو الاضمحلال، آخذة معها النظام السياسي الذي تجسده الديمقراطية.
أحاط الرأسماليون الكبار في الغرب أنفسهم بطبقة متفوقة جديدة، تسكن المدن الكبرى، على حين ألقوا نصف المجتمع في الفقر، ودفعوهم نحو ضواحي تلك المدن.
كانت الولايات المتحدة، قلب الرأسمالية، أولى الدول المتضررة. والدولة التي حاولت الخروج من هذا الدهليز الحلزوني الجهنمي، كانت المملكة المتحدة بلجوئها إلى بريكزيت في حزيران 2016. لكنها لسوء الطالع، لم تتوصل إلى إبرام الاتفاق الذي كانت تتمناه مع الصين، وتواجه الآن صعوبات في إيقاظ الكومنولث.
أما في الولايات المتحدة، فقد أدرك الشعب أنه لم يعد يأمل خيراً من الديمقراطيين ولا من الجمهوريين على حد سواء، وأنهم في الواقع انتخبوا مرشحاً كانت حظوظه في الفوز ضعيفة في أيلول 2016، أي دونالد ترامب.
كان يبدو دونالد ترامب، إبان تفكك اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، رجلاً طائشاً، يقف وحده مدافعاً عن الرأسمالية الإنتاجية، في وجه مشروع العولمة المالية. وظل يسعى منذ ذلك الحين إلى التشكيك بجدوى جميع الاتفاقات التجارية المبرمة خلال الثلاثين سنة الماضية، بما يؤدي إلى عودة فرص العمل إلى بلده. لهذا، يقود صراعاً مريراً منذ وصوله إلى البيت الأبيض ضد كبار المسؤولين، والجنرالات، وحتى أعضاء في حكومته.
وفي إيطاليا، التي تراجعت فيها الصناعة الوطنية إلى حد كبير، صوت الشعب ضد الطبقة التقليدية الحاكمة، ما سمح لتحالف حكومي مناوئ للنظام السائد بالوصول إلى السلطة، في شهر آذار من العام الجاري 2018.
تحاول الحكومة الإيطالية الآن وضع سياسة اجتماعية جديدة، صحيح أنها لن تحل المشكلات العميقة في هذا القطاع، ولكنها كفيلة بسد رمق الطبقة الفقيرة. بيد أن الاتحاد الأوروبي يعترض بشدة على ذلك.
وأخيراً في فرنسا، التي لم يعد هناك أي حضور لمقاولين صناعيين فيها، حيث تذوب الطبقة الوسطى كالثلج تحت أشعة الشمس، حيث أصبحت الهيئات السياسية معطلة بالكامل، نزل الناس فجأة إلى الشوارع.
الرئيس إيمانويل ماكرون ليس رجل المرحلة بلا أدنى شك، كما أنه ليس مسؤولاً عن نظام مُعولم موجود قبله، لأنه ببساطة، هو نفسه، من مفرزات هذا النظام.
وبينما كانت باريس تشهد أعمال شغب لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان، خاطب الرئيس ماكرون مواطنيه من مقر مجموعة العشرين المنعقدة في بيونس آيرس، قائلا: إنه راض عن نتائج أعمال القمة، وإنه واثق من قدرته على المضي قُدماً بشكل أسرع، وأكثر فعالية في الطريق المسدود، الذي ترفضه كل من بريطانيا، والولايات المتحدة، والإيطاليون، وحتى الفرنسيون.
من المؤكد أن هذه الظاهرة التي انطلقت شرارتها الأولى من فرنسا، لن تتوقف طوال العقد القادم، ولن يكون بوسع أحد إيقافها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن