كان على أحدهما أن يغادر الآخر أو يمنح الأول فرصة. لم يكن عقل الصناعي قادراً على تحمل ثقل الكارثة فانزوى بعيداً، بدوره قام هو في صباح اليوم التالي، أعد ترمس قهوة مرة وحمل كؤوسا بلاستيكية ولبس ثيابا خفيفة متوسطة القيمة ونزل متجها لدوار الساعة يبيع القهوة للمارين. كان البعض يميزه، والبعض الآخر يكذب عيونه وآخرون يمرون عبره من دون اهتمام.
كان الذين ميزوه يترحمون على أيام عزه ويدعون له بالشفاء والصبر ويديرون ظهورهم مستكملين سلسلة السباب والشتيمة وصولاً لأمير قطر السابق حمد بن خليفة.
خسارة المليار دولار ليست أمرا هينا. تدمير المصنع الرائد ومن ثم سرقة ما تبقى سالماً أيضاً ليس بالأمر الهين.
إيداع ذكريات ثلاثين عاماً من الجهد والمثابرة والتفاوض والاستعداد والتحدي في خزائن النسيان يحتاج لمجهود فوق بشري.
البشر يخلطون كل شيء بمشاعرهم، بإحباطاتهم، بحماستهم، بغيرتهم وحسدهم أحياناً وتمنياتهم وآمالهم أحياناً أخرى. كل هذا صعب ولكن ما هو الأصعب هو الإجابة عن السؤال ماذا أفعل الآن؟ هذا الصباح ماذا أفعل؟ بعد فنجان القهوة إلى أين أتجه وماذا ألبس؟
لماذا الاستيقاظ باكراً إذاً؟ ليس هنالك من سائق يمسح زجاج السيارة تحت المنزل منتظراً، ولا معمل يستقبلك بصوت آلاته قبل مئات الأمتار، ولا بريد وأوامر إدارية على مكتبك للتوقيع، ولا مواعيد ولا اجتماعات.
ما الذي يفعله البيك وقد جُرِّد من لقبه؟ جردته الحرب ولصوصها وغياب القانون والشر الذي ينتصب ملكاً هذه الأيام.
كيف يقاوم البيك وهاتفه لم يعد يرن، واسمه قد بات من ذكريات الأمس؟ أما ذلك الذي يقف مع بعض الانحناء أمام دوار الساعة فقد كادت قهوته تنفد بعد أن باع مخزونه الضئيل.
نظر للألفي ليرة التي بين يديه من فئات العملة الورقية المختلفة، وتذكر الخمسين ليرة الأولى التي حصل عليها قبل خمسين عاما. ربما تعادل القيمة المالية ذاتها لما يحمله الآن.
كان قد بدأ عمله الأول في مصنع للنسيج تعرف على أحد مديريه وهو يدور مخدماً الزبائن بين طاولات المقهى الذي كان يعمل به بأجر لا يتجاوز الخمسين ليرة شهرياً.
أعجب المدير بذاكرته، وفطرته التجارية، فطلبه لقسم التسويق، وتسلق الولد السلم حتى باتت تجارة المصنع منتشرة في كل دول الجوار.
جمع الخبرة والعلاقات وبعدها جاء المال يجر بعضه بعضاً، وتراكمت فوقه الألقاب التي تضاف للبطاقات، أو يهمس بها بالجلسات الخاصة.
من صبي لأستاذ للمعلم الكبير ومن ثم البيك.
صفة «اللورد» المحلية التي تعود لحقبة الإقطاعية والبرجوازية في بدايات القرن الماضي والتي عادت للظهور بدايات القرن الحالي أخيراً، لم تولد مجدداً لأن الزمن عاد للخلف، وإنما لأن الحاجة ولدت للتمييز بين الأثرياء، فبينهم حديث النعمة الذي لا يعرف لثروته أصلاً، وبينهم المهرب الذائع الصيت، وبينهم المسؤول الفاسد، وبينهم السمسار الشره، لكن أن تبدأ من الصفر، وتصبح علامة فارقة في مجال الابتكار والصناعة، فهذا يستحق لقباً، يتم إحياؤه من سابق الأزمان.
لكن البيك، ظل في منزله هذا الصباح، يواجه الحائط، أما ابن حلب اليافع، فهاهو يستعيد الطريق ذاته مجدداً، متجاوزاً الناس العابرة فيما هو يفكر، ما الذي يمكن أن يضيفه لفنجان القهوة الصباحي على إشارة دوار الساعة، كي يضاعف ربحه اليومي، فغداً صباح جديد.