ثقافة وفن

نحن لا نصنع التاريخ بل التاريخ هو الذي يصنعنا

| المهندس علي المبيض

كنا في المقالات الثلاث السابقة وتلبية لطلب بعض السادة القراء قمنا بتسليط الضوء على موضوع وصول الفينيقيين إلى القارة الأميركية، فقد عرضنا لمحةً موجزةً عن الفينيقيين الذين ينحدرون من أصول سامية وظهروا في الألف الثاني قبل الميلاد، واستوطنوا الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وغرب منطقة الهلال الخصيب وشملت في البداية المناطق الساحلية في سورية وفلسطين ولبنان حيث أقاموا في هذه المنطقة عدة مدن رئيسية مثل طرطوس، أرواد، عمريت، جبيل، بيروت، صيدا، صور، حيفا، واستفضنا بالحديث عن إنجازهم المتمثل بالوصول إلى القارة الأميركية قبل كريستوفر كولومبوس بحوالي ألفي عام وقدمنا عدة أدلة على ذلك مستقاة من دراسات قام بها العديد من الباحثين والدارسين لتاريخ الشعوب وبينا بالأدلة أن كريستوفر كولومبوس ليس أول من اكتشف العالم الجديد، بل سبقه لذلك العديد من الرحالة والمستكشفين الآخرين من العرب ومن غير العرب.

ونجد أنه من الضروري أن نذكر دائماً بأن الغاية التي نرجو أن نصل إليها من خلال نشر هذه المقالات الأسبوعية أن ندرك أهمية قراءة التاريخ ونتعرف على مكامن قوته لأن من وعى التجربة تجنب تكرار الخطأ ومن وعى التاريخ في صدره فقد أضاف أعماراً إلى عمره.
وكذلك فإننا حين نستعرض المشاهد التاريخية السورية ونذكر بأمجاد السوريين فإننا نفعل ذلك ليس من باب السرد التاريخي، ولا نهدف من وراء ذلك أن نهز رؤوسنا يمنةً ويسرةً نشوةً وزهواً بما صنعه الأجداد فقط وإنما للتحفيز كي نعيد سيرة أمجادهم ونقتفي أثرهم ولكي نثبت لنا وللآخرين أن جيلنا اليوم الذي يمثل أحفاد هؤلاء العظماء الذين أسهموا بشكل كبير في كتابة أسطر التاريخ الحافل قادرون على النهوض مجدداً والتواصل الحضاري والثقافي والمساهمة بشكل إيجابي بكل مناحي الحياة.
نعود إلى موضوعنا الرئيس الذي كنا نتحدث خلاله عن القلاع والحصون في سورية والذي يؤكد على نقطة مهمة جداً، وهي أن وجود القلاع والحصون في سورية يؤكد الجانب الدفاعي في تكوين السوريين وطبيعتهم المسالمة التي تقترن بالتشبث بالأرض والاستبسال في الدفاع عنها وبعدهم عن الحروب الهجومية والعدوانية والاستيلاء على أراضي الغير، وإن الحروب التي كان السوريون يخوضونها منذ القدم إنما تندرج ضمن الحروب الدفاعية وليست العدائية.
نتابع في هذا العدد ما بدأناه من رحلة في ذاكرة الحجر وما أبدعته يد البشر من قلاع وحصون وأبراج واستكمالاً لحديثنا الذي بدأناه سابقاً عن الحصون والقلاع في طرطوس نجد أنه من المفيد أن نبين أن تاريخ المدينة يذكر وجود العديد من القلاع والحصون والأبراج، ما يدلل على أهمية الذود عن الحمى وقداسة الدفاع عن الوطن التي كان يعتنقها أبناء المنطقة.
حصن سليمان وضمن هذا السياق فلابد أن نزور معلماً تاريخياً مهماً يعكس الواقع الاجتماعي في طرطوس خلال الحقب القديمة وهو حصن سليمان وهو مركز فينيقي متقدم كان يتبع لمملكة أرواد يعود تاريخ بنائه الحالي إلى القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد أطلق عليه قديماً باثيوسي وكان يسمى في العصور القديمة بيت خيخي وفق نصوص الكتابات اليونانية المكتشفة في الحرم الكبير للمعبد، حيث كان حصن سليمان معبداً مكرَّساً لعبادة إله محلي آرامي اسمه منقوش باليونانية على أماكن مختلفة من المعبد.
يقع حصن سليمان على السفح الشمالي الغربي لجبل النبي صالح يبعد عن طرطوس مسافة 50 كم من الجهة الشرقية وعلى بعد 14 كم من مدينة الدريكيش ويرتفع عن سطح البحر نحو 700 متر، ويطل على واد جميل تزينه أشجار الجوز والدلب والتوت والسنديان، تحيط به المرتفعات الجبلية من كل الجوانب وهو معبد أنشأه الآراميون عندما استوطنوا هذه المناطق الجبلية الحصينة هرباً من هجمات الآشوريين، ثم جدده السلوقيون والرومان قبل أن تبنى فيه كنيسة في العهد البيزنطي.
وسمي الحصن لأن أسواره مبنية بأحجار ضخمة كالحصن، يبلغ طول بعضها نحو ثمانية أمتار وسماكتها نحو مترين وارتفاعها نحو ثلاثة أمتار ويزن الواحد منها أكثر من 70 طناً ويتداول أبناء المنطقة أن تسميته حصن سليمان كانت مرتبطة بأذهان الناس بمعجزة البناء نظراً لضخامة أحجاره التي بني بها إذ إن المعبد قد بني من حجارة كلسية منحوتة ضخمة جداً، حيث كان يعتقد أن النبي سليمان أمر الجن ببنائه ولكن هذا الاعتقاد يبقى ضمن إطار الأساطير والقصص الشعبية، حيث تشير الدلائل إلى أن بناة الحصن في تلك الفترة قد استخدموا أفضل الأساليب والطرق والمعدات الخاصة بفن البناء والعمارة.
يمتد بناء الحصن على مساحة واسعة ويأخذ شكلاً مستطيلاً باتجاه شمال جنوب، وهو ذو ثلاثة أقسام رئيسية: الحرم الكبير، قاعة العبادة، الحرم الصغير، حيث ينتصب هيكل المعبد في أعلى نقطة من منتصف الحرم.
يحيط بالمعبد سور مستطيل طوله 144م وعرضه 90م مبني بحجارة مستطيلة ضخمة وفي كل جانب من جوانب السور الأربعة بوابة يتم العبور من خلالها إلى حرم المعبد.
يضم حصن سليمان المحاريب الصدفية والتماثيل الرائعة كما تزين السور والمعبد والجدران الكتابات اليونانية واللاتينية والنقوش الرائعة وكذلك تتمتع النقوش والكتابة الموجودة على البوابة الشمالية بأهمية وخاصة أنها تذكر الامتيازات التي حصل عليها سكان الموقع كما دلت الدراسات والأبحاث التي تم إجراؤها على الكتابة المنقوشة في عدة أماكن من الحصن على أن المعبد كان موجوداً في العهد الهلنستي، إلا أن المعلومات المتوافرة قليلة وبالتالي لا نعرف كيف كان عليه المعبد في ذلك الحين.
قلعة الشيخ ديب وهي قلعة كنعانية قديمة مبنية من حجارة بركانية، تقع إلى الشرق من حصن سليمان في قرية القليعة إلى الشمال الغربي من مدينة الدريكيش بحوالي 26 كم وترتفع نحو 975م عن سطح البحر وتعود سبب التسمية إلى عائلة سكنتها منذ نحو 300 عام.
تتوضع القلعة على جبل بركاني صغير وترتفع نحو 300م عن الأرض التي تقع عليها وهي عبارة عن كتلة صخرية بركانية تنتصب وسط الوادي الذي يفصل بين جبلين هما جبل النبي صالح في الجنوب الشرقي وجبل النبي «متى» في الشمال الغربي، استخدمت في القرون الوسطى كمرصد دفاعي للتحكم بالمنطقة وتبادل الإشارات مع القلاع الأخرى، إذ تقع على خط واحد مع قلعة مصياف، وهي صغيرة إذ تبلغ مساحتها نحو 230م2 ومبنية من حجارة صغيرة نسبياً، وقلعة الشيخ ديب مهدمة لم يتبق منها سوى الطابق ما تحت الأرضي حيث فيه صهريج ماء منحوت في الصخر كان المحاربون يستخدمونه للشرب، وهناك أيضاً أسوار القلعة التي لم يتبق منها سوى السور الذي يحيط بالقمة.
قلعة الخوابي تبعد عن مدينة طرطوس من الجهة الشمالية بمسافة تبلغ حوالي20 كيلومتراً وتبعد عن مدينة بانياس30كم تقع في منطقة الشيخ بدر يبلغ طولها 350م وعرضها200م وهي قلعة مهدمة ويعود تاريخ بناء القلعة إلى القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، وتتكون القلعة من قسمين:
القسم الأعلى مرتفع من مركز القلعة وقد زالت معالمه الأثرية وتم إقامة الأبنية الحديثة فوقها وفيها مسجد جدد بناؤه في العهد العثماني بإدخال صخرة بازلتية سوداء وضعت فوق عتبة البوابة كتب عليها توقيفات حميدية عام 1310هـ، وقد حافظ هذا القسم على بعض معالمه القديمة كالأقبية ومرابط الخيل، أما ما تبقى منه فقد أصبح أطلالاً من الحجارة يتوزع فيها عدد من الآبار.
القسم السفلي وهو مهدم كلياً ولم يتبق منه شيء على الإطلاق.
ونحن إذ نسلط الضوء في مقالاتنا هذه على بعض القلاع التاريخية في سورية فإننا نهدف إضافة إلى ما ذكرناه سابقاً أن نشجع السادة القراء على زيارتها باستمرار فهي بجمال مواقعها وبهاء منظرها وحسن عمارتها تضاهي أجمل قلاع العالم قاطبة.
وهذه القلاع تمثّل قيمة ثقافية وحضارية ومعمارية كبيرة نتمنى أن تكون قريبة من متناول الجميع وأن يتسنى للسادة القراء فرصة زيارتها والتعرّف عليها عن قرب وتسجيل لحظات لن تنسى بحضرة أوابدها وليقفوا أمام عظمة الإنسان الذي بناها وأبدع في هندستها، وكما كان لكل قلعة شخصيتها الخاصة وتاريخها الخاص بها، فإن الزائر ينبهر اليوم أمام كل قلعة على حدة، وكأنها الأولى التي يزورها في حياته فطوبوغرافية الأرض تلعب دوراً أساسياً في تحديد معالم كل قلعة على حدة.
لأنه وببساطة سنكتشف في النهاية أننا لا نصنع التاريخ بل التاريخ هو الذي يصنعنا.
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن