ثقافة وفن

سيرة حياة الدكتور عبدالله واثق شهيد … يصور الحياة متحدثاً عن تاريخ سورية وما مرت به من أحداث وطنية وثقافية وعلمية وتعليمية

| سارة سلامة

صدر عن مطبوعات مجمع اللغة العربية كتاب «الفيزيائي المجمعي»، للأستاذ الدكتور عبد اللـه واثق شهيد «1927-2015»، أمين مجمع اللغة العربية بدمشق، وهو عبارة مذكرات تحمل سيرته ورحلة حياته الذاتية التي خطها بيده، والكتاب يقع في 304 صفحات من القطع المتوسط.
والدكتور شهيد ولد عام 1927، في بلدة دارة عزة بمدينة حلب، وتخرج في قسم الفيزياء في كلية العلوم بجامعة دمشق عام 1951، وحاصل على شهادة الدكتوراه في الطاقة النووية من فرنسا، وأنشأ وزارة التعليم العالي في سورية عام 1966م، وكان أول وزير لها، وفي عام 1971م كان أول مدير لمركز البحوث والدراسات العلمية في سورية، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1994م، وهو الباحث والفيزيائي والوزير السابق الذي نال مناصب عديدة، وغادر الحياة في العام 2015.

كلما ازدت قرباً منه ازدت إعجاباً
وفي تقديم الكتاب تحدث عضو مجمع اللغة العربية الدكتور مازن المبارك تحت عنوان (مع سيرة الأستاذ الدكتور عبدالله واثق شهيد) قائلاً: «لقد عرفته في أول عهدي بالتدريس الجامعي، جمعتنا لجنة تمثل الهيئة التدريسية الجامعية لوضع مذكرة عما يصلح أوضاعها وعما نحتاج إليه، ثم عرفته زميلاً معاراً إلى جامعة الرياض وصحبته عن قرب واستمرت صلتنا بعد انقضاء الإعارة حين كنت أستاذاً في الجامعة وكان عميداً لكلية العلوم فرئيساً للجامعة ووزيراً للتعليم العالي، ثم لقيته في مجمع اللغة العربية، وكنت عضواً في لجنة رأسَها واستمر العمل فيها سنوات ليس فيها سوى اثنين هما رئيسها شهيد وكنت معه فيها عضوها الوحيد، ولقد عرفت عنه أكثر مما كنت أعرف، فهو من الرجال الذين كلما ازدت قرباً منه ازدت إعجاباً به، وحباً له، وتقديراً لسلوكه وأخلاقه».
ويضيف المبارك إنني: «لن أستطيع متابعته وهو يتابع يسرد سيرته، بل يصور الحياة التي عاشها، بل يلقي ضوءاً على تاريخ بلده سورية وما مرت به من أحداث وطنية وثقافية وعلمية وتعليمية، إنها صورة لكل ذلك من منظور إنساني صادق صاف، نبت في دارة عزة ونشأ في حارم وتعلم في حلب ثم في دمشق، تنقل من موظف ومعيد في الجامعة إلى مدرس فأستاذ فعميد فمدير للجامعة فنائب ووزير للتعليم العالي، فكانت له في كل مرحلة من مراحل حياته شخصيته الثابتة ونظرته الثاقبة وآراؤه الواضحة، رحم اللـه الدكتور عبد اللـه واثق شهيد العالم الواعي النشيط، والمفكر المبدع، فلم يترك فرصة إلا وشجع الشبان والنابغين من طلابه واغتنمها ليدفع بهم إليها ويوجههم نحو مستقبلهم بحكمة وصدق، وما عرف كلمة وفاء إلا قالها في مناسبتها موجهة إلى من يستحقها من أفراد أسرته أو أصدقائه أو أحد رجال وطنه».
وفي مسيرة حياة الباحث والفيزيائي الدكتور عبد اللـه واثق شهيد، كان بحثنا منتقين مما تركه على شكل ومضات صغيرة تدل على حياة عظيمة وقصة نجاح كبيرة لننهل منها الكثير:

البيئة التي نشأت فيها
للبيئة التي نشأت فيها مظاهر عدة، فهي مجموع البيئات الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أن البيئة الثقافية كانت في أيام طفولتي ضعيفة التأثير في قرانا، نقف على بعض ما يذكر بها في ثنايا عرض البيئات الأخرى.
أما البيئة الاجتماعية فهي أوسعها جميعاً وأقواها تأثيراً، ما يجعلها ترد في عرض جميع مظاهر البيئة العامة: الطبيعية والاقتصادية والثقافية، ولا بد لاستكمال صورتها من عرض أهم العادات الاجتماعية في القرية التي يمكن جمعها في عادات مجتمعها في الأعياد والأعراس والاحتفالات والألعاب أو اللهو، وكانت المرحلة الأولى من العمر، من بدايات الوعي حتى نهاية مرحلة التعليم الابتدائي، يبدو مما تبقى في ذاكرتي عن مرحلة من الطفولة تنتهي مع بداية دخولي المدرسة الابتدائية في حارم، وقد تمتد أحياناً إلى سن العاشرة، أن انتباهي قد انصرف فيها إلى أمي خاصة من بين كل من يكون حولي، فلا أذكر إذا ما كنت معها أحداً من الأهل.
قد يكون ذلك طبيعياً، أي إن حضور الأم في مشهد ما يطغى لدى الأطفال على كل ما يحتويه، فلا يميز الطفل فيه غيرها، وإذا ميّز أحياناً غيرها، كان ما يميزه من الحضور هو مما تهتم هي به في ذلك المشهد، وهذا ما جعلني أذكر في عودتنا من حلب إلى دارة عزة حاج علي حسن وأمي.
كان عمري وقتئذ قرابة خمس سنوات، ولم أشعر بوجود أختي عائشة التي تصغرني بسنتين ونصف السنة إذ لا بد أنها كانت مع أمي فصغر سنها لا يسمح بتركها بعيداً عنها، لم أشعر بوجودها معنا كما ليس في ذاكرتي ما يذكرني بها من قبل، لا أذكر بدقة تاريخ حدوث بعض المشاهد، وأحتاج لتحديده بدقة إلى مزيد من الوقت لتنشيط الذاكرة والعودة بها إلى ما يجاور ذلك المشهد زماناً ومكاناً، وسأعود بها فيما أرى أن تحديد تاريخ وقوعه من المشاهد مهم، أهم ما بقي في ذاكرتي من هذه المرحلة يصنف في صنفين هما: ما وقع قبل انتقالنا من دارة عزة إلى الدار الجديدة، وهي المرحلة التي كان عمري فيها دون السادسة.
وتلك التي وقعت بعد انتقالنا إليها، دلّاني أحد إخوتي من شرفة الطابق الأول ليتلقاني أخوان آخران في أرض الدار فيأخذاني إلى أمي التي كانت تخبز على التنور، إلا أن ممانعتي التدلي خوفاً من الوقوع، وتحركي عشوائياً وبشدة، أديا إلى ارتطام رأسي من الخلف بنجاف الشرفة التي لا يحيط بها (درابزون) ففدغت الجمجمة ولا يزال موضع الفدغ ظاهراً وقد تجاوزت الثمانين من العمر، في هذه اللحظة التي ارتطم فيها رأسي بالنجاف وفدغ.
سجلت في الذاكرة صورة كاملة لما حولي: أمي مع سيدة أخرى على التنور الذي يقع في أقصى الجنوب من الدار، وفي الغرب بين التنور وباب الدار أثفية عليها قدرة (قدر صغيرة) من الجينكو بنفسجية (لا بد أنني رأيتها من قبل)، وكومة من الحطب في أقصى الشرق من الدار، يليها إلى الشمال بئر بلا سكر.
كان عمري كما ذكر أخي إبراهيم، وهو الذي دلاني، دون الثالثة، تفاصيل المشهد التي ذكرت تدل على أن الطفل يعي في سن مبكرة اللحظات الحاسمة الخطيرة في حياته.
يظهر أن بدايات وعيي ما أحلم به، وبدايات تسجيله في الذاكرة، كان قبل سن الرابعة أو حولها (بالمقارنة بوقت زيارة خالي فيما بعد). كنت كثيراً ما أحلم في هذه السن أنني ممدد على الأرض بين بداية الدرج وحائط الدار، والمسافة بينهما لا تزيد على متر إلا قليلاً، يحاصرني وأنا ممدد أسد لونه أسمر فاتح يهم بافتراسي من رقبتي، وبين كتفيه لبدة عظيمة، تكرر هذا الحلم مراراً وأنا في هذه السن.
هذا الحلم أصبح موضوع اهتمامي في السنوات الأخيرة من دراستي في التجهيز، فلقد رأيت صورة الأسد في كتاب كليلة ودمنة، وفي كتاب القراءة في أندروكلس والأسد، إلا أن هذا كله حصل في سن بعد الرابعة بكثير، فمن أين جاءتني صورة الأسد وكيف؟
وأخذت أفكر في التقمص، ولاسيما أنني كنت أحلم بأنني أطير في الساحة الضيقة لتلك الدار وأحط فوق أكوام الحطب في الطرف الشرقي منها، وتكرر هذا الحلم أيضاً حتى العاشرة من العمر أو قريباً منها مع أننا انتقلنا إلى الدار الجديدة قبل السادسة.
بقي هذا الهاجس يؤرقني إلى أن قرأت وأنا طالب في المعهد العالي للمعلمين، أن الإنسان لا يمكن أن يحلم بصور لم يرها في يقظته، فعدت إلى أمي وإخوتي أسألهم عما إذا كانوا يتذكرون صورة أسد كانت كثيرة الحضور في الدار، فأخبرني أخي إبراهيم بعد مدة، أن أبي كان يضع سجائره في علبة معدنية عليها صورة أسد، إلا أن هذه العلبة بقيت بعيدة عن ذاكرتي أكثر من عامين، ولاسيما أنني لم أدرك أيام تدخين والدي التبغ.

في كلية العلوم معيد
جرت الامتحانات وتخرج أول فوج في كلية العلوم، فخرجنا من فئة الطلاب ولكن عشش في قلبي حبّ هذه المرحلة من الحياة، مرحلة الشباب بقوته وآماله وطموحه، وعينت مدرساً في تجهيز حلب كما اخترت، تجذبني إليها ذكريات الحياة الليلية وصداقات الفتوة الخصبة، التي جعلت من الصبية رجالاً، ولكن لم يبق في المدرسة من رفاق الأمس أحد.
أما دمشق، فلا تزال كلية العلوم تزهو بأساتذتنا وزملائنا وكثير من الطلاب المستجدين الذين دخلوا الكلية في سنتنا الأخيرة فيها، فيها الشبان المشرقة وجوههم والعامرة صدورهم بالآمال والأحلام، يبنون بها صورة المستقبل الوضاء، والحب ينبض في قلوبهم فيملأ دنياهم مرحاً ودروبهم بشائر خيرة، فهنا في دمشق ذكريات الأمس القريب وإليها الحنين إلى الشباب بآماله وأحلامه.
فلما أعلنت كلية العلوم عن مسابقة لانتقاء معيدين في قسم الفيزياء تقدمت إلى المسابقة مع زميليّ الناجحين في الدورة الأولى، فنجحت أنا وزميلي عدنان المحاسب، وعدت إلى قسم الفيزياء معيداً، كان تفقدي الغرف التي كنا نجتمع فيها طلاباً لتلقي الدروس، هو همي المحبب إلي، إنها ذكريات تهز النفس شوقاً إلى تلك الأيام التي كنت ما أزال فيها طالباً، لقد ولّت ولن تعود وأبقت لي ذكريات.
في كلية فتية لم يكن للبحث العملي فيها دور، فلم يقم أحد من أساتذتها السوريين ببحث علمي في الفيزياء باستثناء بدايات الأستاذ توفيق المنجد في فرنسا، ثم إن مهام التدريس تثقل كواهلهم، وكنت لذلك أقوم بتوجيه نفسي، واستمع بشوق إلى ما تبقى في ذاكرة أساتذتنا الدكتور إسحق الحسيني عن التوابع (الدوالّ) الخاصة والقيم الخاصة في الميكانيك الموجي، الميكانيك الجديد (في أيام دراسته في ألمانيا).
كنت أستمع إليه، وأعود للأستاذ فتحي قدورة فأنتقي من كتالوج مكتبة بلاكويل، الذي لديه، كتاباً في الميكانيك الموجي، الميكانيك الجديد الذي حدثني عنه أستاذي الحسيني، ابتعت كتاباً من بلاكويل لم أفد منه كثيراً، ولا يزال في مكتبتي، وآثرت العودة للغة الفرنسية، فاشتريت عدة كتيبات من منشورات أرمان كولان، كانت جميعها عن الإشعاع وانتقال الحرارة والإحصاء، وقد أفدت منها كثيراً، وكنت من قبل قد ألفتها في كتابة رسالة التخرج عن الأشعة السينية، كذلك حاولت مرافقة صلاح أحمد في دراسة شهادة التفاصيل والتكامل، وأنهيت معه جزءاً مهماً من موادها (مقرراتها).

في المناصب العلمية العليا
عضو في مجلس الشعب: في ليلة من ليالي عملنا في تطوير التعليم في الكلية جاءني الأستاذ إلياس فرح عضو قيادة الحزب يشرح لي خطة الحزب في الاعتماد على المثقفين التقدميين للمشاركة في مجلس الشعب بالرأي في التطوير، وأن رأي الرفاق في القيادة اتفق على دعوة مجموعة من المثقفين ليكونوا أعضاء في مجلس الشعب وليشاركوا في مسيرة التطوير، وأني أحد أفراد هذه المجموعة.
شكرته على الثقة التي أولوني إياها، وبعد حديث مسهب من الأستاذ فرح رجوته أن يمهلني يومين اثنين، ناقشت فيهما دوري الذي ليس لي فيه دراية، كما ناقشت هذا الدور مع قلة من الأصدقاء، منهم صلاح أحمد خاصة لثقتي بحصافة رأيه، وحسن طويته وصدقه، وقد استقر الرأي على قبول العرض والعمل من خلال مجلس الشعب على رفع آرائنا في تطوير التعليم عامة والجامعي منه بخاصة.

وزير للتعليم العالي
وبينما كنت ليلاً أحزم الأمتعة التي ستصحبني في السفر إلى فرنسا رنّ جرس الهاتف، رفعت سماعته، فإذا بالدكتور يوسف زعين على الهاتف، يقول: لقد قررنا إحداث وزارة للتعليم العالي، وأنت في الوزارة الجديدة وزير التعليم العالي، تؤسسها وتقترح تنظيمها وفق الدراسات التي قمت بها، فاعتذرت شاكراً، وقلت له إنني تهيأت للسفر واتخذت الجامعة قراراً بإيفادي بمهمة علمية إلى فرنسا، وأنا أقوم الآن بحزم أمتعتي، وفي البيت بعض الزملاء يعينوني على حزمها، وأنت تعلم أن أخي توفي منذ أيام فقط، وفي ابتعادي عن البلد وعن الأهل وعن كل ما يذكرني به سلوى تخفف من تأنيب الضمير بالتقصير بالعناية به.
لم يتابع الدكتور زعين الحديث ووضعني أمام الوضع المحرج، فقد صدر مرسوم تأليف الوزارة وكنت فيها وزيراً للتعليم العالي.
لم يكن موقفي من هذه الوزارة كموقفي من السابقة، إذ قلت في نفسي سيتاح لي في هذه الوزارة الاستفادة من الدراسات التي قمت بها في الوزارة السابقة فأقوم بإصلاح التعليم العالي وفق ما استقر عليه رأيي وعرضته في منتدانا الفكري، وسيشغلني العمل الجاد في تنظيم الوزارة وفي تطوير التعليم الجامعي عن دوام التفكير بالموت، وسأجد في العمل ضالتي من السلوى.

في مجمع اللغة العربية
في صبيحة يوم من أيام آب عام 1985 اتصل بي الدكتور شاكر الفحام رئيس المجمع قائلاً: نريد من إنتاجك العملي ومما تكتب لأننا رشحناك لعضوية المجمع، فاخترت له كتابي: الترموديناميك والفيزياء الإحصائية، وأرسلتهما إليه مع كلمة شكر.
وفي 7/9/ 1985، انتخبني أعضاء المجمع عضواً عاملاً في المجمع، وصدر بذلك المرسوم الجمهوري ذو الرقم 495 بتاريخ 1988.
وأخذت أعد نفسي لعضوية المجمع، واستمرار تطوير المركز يملأ عليّ وقتي كله، فلم أتمكن من الإعداد إلا بعد تركي إدارة المركز في أوائل تموز 1994، عندئذ اتصلت بالدكتور شاكر وقلت له: أنا على استعداد لحفل الاستقبال، فقال ستتحدث في الحفل عن شاعر دمشق شفيق جبري فانتابتني الحيرة، فأنا لا أعرف عنه إلا اليسير، فأخذت أجمع منتجات من أشعاره، ومما كتب عنه لأستخلص منها ما أحدّث به يوم الحفل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن