قضايا وآراء

واشنطن وبكين.. التنافر والتلاقي

| مصطفى محمود النعسان

الخلاف بين الولايات المتحدة الأميركية والصين يمكن تلخيصه وإجماله بشقين اثنين: أحدهما اقتصادي، والآخر يتعلق بالنفوذ وتوسيع رقعة السيطرة، وكلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً، ذلك أن الجانب الاقتصادي، وما يشمله من ضرائب إنما مؤداه في النهاية محاولة تحجيم كل طرف للطرف الآخر، والإقلال من دوره ونفوذه فمثلاً جلّ التخوف والقلق الأميركي يتمثل في مقولة «صنع في الصين 2025».
بالمقابل فإن جل القلق، والتخوف الصيني يتمثل بالتمددات، والاستفزازات الأميركية من خلال السفن التي تبحر في بحر الصين الجنوبي قريباً من تايوان التي تعتبرها بكين أراضي صينية لا يجوز الاقتراب منها أو المساس بسيادتها ومن هذه التحرشات الأميركية دخول مدمرة المياه الصينية في بحر الصين الجنوبي الأمر الذي جابهته بكين باقتراب سفينة صينية منها لمسافة 41 متراً طالبة منها المغادرة ما دفع بالمدمرة الأميركية إلى الاستجابة والرضوخ، وذلك في منتصف أيلول الماضي وهي الفترة التي أعلنت فيها واشنطن بيع تايوان أسلحة بقيمة 330 مليون دولار.
ثم أعقب هذا الاستفزاز الأميركي للصين إرسال سفينتين حربيتين أميركيتين عبر مضيق تايوان بحجة حرية الملاحة الأمر الذي دفع الرئيس الصيني شي جين بينغ لدعوة القوات المسلحة في الخامس والعشرين من تشرين الأول الماضي للاستعداد لأي حرب طارئة يمكن أن تفتعلها أميركا، وهو ما مثل قمة التحدي الصيني للصلف والغرور الأميركي، وذلك من منطلق مواجهة القوة بالقوة، وعملاً بالمثل المعروف: «لا يفلّ الحديد إلا الحديد»، وليس من باب خيار اللجوء للعسكر، والحرب من جانب بكين.
الحق أنه إضافة للتحرشات العسكرية في بحر الصين، وقرب حدود تايوان فإن واشنطن حاولت عدة مرات تحدي السيادة الإقليمية للصين من خلال محاولة تعزيز تحالف «الهند- المحيط الهادئ» الجديد الذي يهدف إلى احتواء الصين الصاعدة فضلاً عن طرحها استثمارات بقيمة 113 مليون دولار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ كجزء من إستراتيجية واشنطن في المنطقة لمواجهة ما تعتبره دوراً قيادياً صينياً ناشئاً.
في المقابل عملت الصين، وتعمل على إحياء مشروع طريق الحرير الجديد بين القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا عبر ما بات يعرف بمبادرة «الحزام والطريق»، بما يسهم في قيام منظومة اقتصادية جديدة تقودها الصين مقابل المنظومة التي قادتها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا زيادة على سعي روسيا والصين ومعهما الهند التي يحاول هذا الطرف استقطابها كما الطرف الآخر لتشكيل مجموعة «بريكس» التي يمثل سكانها أكثر من ثلثي سكان العالم، والتي من شأنها أن تكسر الهيمنة والاحتكار الأميركيين.
مبادرة «الحزام والطريق» تعمل بكين عليها أيضاً لتطور علاقاتها مع دول أميركا اللاتينية التي تعدها واشنطن حديقتها الخلفية والذي تعتبره الولايات المتحدة الأميركية عقبة في وجه مصالحها العسكرية والإستراتيجية.
مجمل هذه الخطوات الصينية لمجابهة القوات الأميركية التي تربض في 279 قاعدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
هذا ما يمكن قوله فيما يتصل بسعي الجانبين الأميركي والصيني لتوسيع رقعة النفوذ، أما ما يتصل بالشطر الاقتصادي والضرائب، وما يسمى حرباً اقتصادية فإنه، كما أسلفنا يكمل الشق الأول ولا ينفصل عنه، ويصب في معطياته، وقد بدأت الحرب التجارية بين البلدين في آذار الماضي في حين يرى بعض المراقبين أنها سبقت هذا التاريخ بكثير حيث بدأت مع الرئيس باراك أوباما، وقبله جورج بوش، وليس مع دونالد ترامب، وذلك تخوفاً من مكانة الصين الاقتصادية، وتحسباً لدورها بعد أن باتت اليوم أول دولة مصدرة في العالم ويفوق حجم صادراتها 2.2 تريليون دولار.
إن الخلاف بين الجانبين طاف على السطح في نهاية آذار الماضي حيث فرضت واشنطن رسوماً جمركية على الصلب والألمنيوم المستوردين من الصين بنسبتي 25 و10 بالمئة على التوالي، وردّت بكين بفرض رسوم مشابهة على بضائع أميركية بالقيمة ذاتها.
وتوترت العلاقات أكثر فأكثر خلال تموز الماضي عندما فرض ترامب رسوماً على واردات وبضائع صينية قيمتها 34 مليار دولار ثم اتبعها بعد ذلك بقائمة جديدة من البضائع بلغت قيمتها 16 مليار دولار إلى أن أعلن في أيلول الماضي فرض رسوم على بضائع وسلع صينية بقيمة 200 مليار دولار حيث ردت الصين بفرض رسوم بقيمة 60 مليار دولار على بضائع أميركية، وتوقفت منذ بداية آب الماضي والتي تعد ثاني أكبر مستهلك للنفط الأميركي عن استيراد الخام من الولايات المتحدة واستبدلته بالنفط والغاز العربي.
لقد أثارت سياسة ترامب التجارية مع الصين ردود فعل سلبية داخل الولايات المتحدة ذلك أن الكثير من المسؤولين الأميركيين ومنهم عمدة مدينة لوس أنجلوس أريك غارسيتي يعتبرون أن تصعيد الحرب التجارية مع الصين قد يتسبب في توجيه ضربة قاسية لاقتصاد مدينته التي تخشى سلطاتها من فقدان الوظائف على نطاق واسع نتيجة استفادة موانئ المدينة من التجارة الواسعة مع الصين ووصف الحرب التجارية بين بلاده والصين بـ«الغبية».
وبعد التهديد الأميركي بداية تشرين الثاني الماضي، والذي سبق قمة العشرين بعدة أيام بتوسيع قائمة الرسوم على المنتجات والبضائع الصينية في حال عدم التوصل إلى اتفاق خلال لقاء الرئيسين إلا أن الخوف من التصعيد العسكري والتجاري انحسر وبدأت ملامح وبوادر الانفراج خلال قمة الرئيسين في الأرجنتين بداية كانون الأول الجاري، وبذلك دخلت حرب الرسوم الجمركية بين البلدين فترة التهدئة والراحة حيث تخلت واشنطن عن قرارها رفع الرسوم الجمركية من 10 بالمئة إلى 25 بالمئة على بضائع صينية بقيمة 200 مليار دولار وهي نصف الكمية الإجمالية اعتباراً من بداية كانون الثاني المقبل، وتصر واشنطن أيضاً على أن تتعهد بكين شراء كميات لم تحدد بعد لكنها كبيرة جداً من السلع الأميركية لتقليص الخلل الضخم في الميزان التجاري.
هذه الهدنة مدتها ثلاثة أشهر يفترض أن يتفاوض خلالها الطرفان من أجل التوصل إلى اتفاق أكثر تفصيلاً على مجمل القضايا والمسائل كما كانت تدعو إليه بكين باستمرار، وهو حوار لحل المشاكل وقد تحقق شيئاً منه، وعلى الأغلب أن نتيجة الاتفاق ستكون إيجابية ليس بسبب توافر الحكمة الأميركية المتمثلة بالابتعاد عن المنازعات والجنوح للسلم والحوار كما هو المنطق الصيني، ولكن بسبب استياء عدد من المسؤولين الأميركيين من سياسة ترامب تجاه الصين وهو ما تؤكده صحة وصوابية أرقام وزارة التجارة الأميركية التي نشرت في السادس من كانون الأول الجاري، ومفادها أن عجز التجارة الأميركية تجاوز نظيره الصيني بمقدار الضعف كما وصل مقدار الدين الأميركي خلال العام الحالي إلى 333 مليار دولار.
في ظل هذا الواقع المتراجع للاقتصاد الأميركي، وفي ظل الجنوح الصيني للحوار والمطالبة بالتفاوض لحل الخلافات من جهة، ومن جهة أخرى، فولاذية المواقف الصينية وصلابتها وقوتها حينما يتعلق الأمر بموضوع السيادة، فمن المرجح أن يرضخ الجانب الأميركي للمطالب الصينية، ويؤتي اتفاق بوينس إيرس ثماره المرجوة في نهاية المطاف، ويؤدي إلى إحلال التهدئة والتلاقي بعد التنافر والتناحر، ولو إلى حين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن