ثقافة وفن

كمخرج أبحث عن الكمال في جميع الزوايا … المخرج علي بدرخان لـ «الوطن»: أنا الوحيد الذي استطعت فك وفهم خط يوسف شاهين

| القاهرة- لونا بوظو

يعتبر المخرج الكبير علي بدرخان أحد أهم وأعظم الأسماء المشرقة والمضيئة في تاريخ السينما المصرية، الذين أثروا الحياة السينمائية بأعمال خالدة لا تزال محفورة في عقول ووجدان المشاهدين حتى الآن، فعلى الرغم من أن عدد الأفلام التي أخرجها لم يتجاوز الـ15 فيلماً فقط، إلا أن المخرج المبدع يتمتع برؤية سينمائية خاصة وأسلوب مبتكر، يهتم أكثر بفن يستطيع أن يضع المجتمع في مواجهة مع صورته الحقيقية وعقله في أبعاده المثلى الممكنة من أجل إغناء وإثراء حياتنا الثقافية وجعلها أكثر جدوى ومؤثرة في حضارة العصر الذي نحياه، في لقائنا معه اليوم نحاول أن نتعرف إلى أبعاد تجربة هذا المخرج الكبير الفكرية والفنية.

في بدء حواري معك أحب أن أعود معك إلى الجذور هل حقاً أنت تتحدر من عائله ذات أصول كرديه؟
نعم فالأصول تعود إلى العائلة البدرخانية أمراء بوتان منذ العهد الأموي وحتى القرن التاسع عشر عندما أعلن الأمير بدرخان ثورته على السلطة العثمانية وأعلن استقلال دولته ولكن بعد حرب طويلة اعتقل ونفي إلى كريت، أما ابنه أمين علي بدرخان وحفيده ثريا فقد هاجرا إلى مصر وأولاد الأمير أمين الآخرين هاجروا إلى سورية، لذلك ستجدين لي أقارب منتشرين في سورية وفي تركيا وفي كردستان العراق.

إذاً فأنت أمير وفنان كالفنان الراحل الموسيقار فريد الأطرش، والذي تزوج والدك المخرج الكبير أحمد بدرخان من شقيقته أسمهان؟
أنا مصري أولاً وثانياً وثالثاً والكثير من المصريين يتحدرون من سلالات كردية وتركية وشركسية، فمحمد علي باشا من أصول كردية وليست تركية وكذلك الكثيرون من الأدباء والفنانين كالشاعر الكبير أحمد شوقي والأديب عباس محمود العقاد والفنان نجيب الريحاني ورشدي أباظة حتى سعاد حسني كانت من أصول سورية كردية، على حين فريد الأطرش أصوله تعود لأمراء الأطرش في سورية وهم من الدروز.. ووالدي كان أول من أخرج فيلماً لفريد الأطرش وشقيقته أسمهان وهو فيلم «انتصار الشباب» كما أخرج لأم كلثوم فيلم «وداد».

وهل حقاً ما يشاع حول أنك رغبت في دخول مجال آخر مغاير تماماً للمجال الفني إذ قدمت بالفعل أوراق انتسابك للكلية الحربية بعد حصولك على شهادة الثانوية العامة؟
الأمر تناول بشكل مبالغ فيه، أنا على العكس كنت أعشق العمل بالمجال الفني وكنت أرغب في الالتحاق بالمعهد العالي للسينما لتعلم فن الإخراج لأنني كنت شديد التأثر بعمل والدي وخاصة أنه كان يدير أعماله من المنزل ولكني خشيت من الإخفاق في اختبار القبول، لذلك ارتأيت أن أضع رغبة ثانية وكانت الكلية الحربية، ولكنني عندما أطلعت والدي على أوراق الانتساب رفض توقيعها وقال لي حرفياً: إن لم تنجح في امتحان الالتحاق بالمعهد العالي للسينما فأنت لست ابن المخرج أحمد بدرخان، وبالفعل تقدمت ونجحت والتحقت بالمعهد العالي للسينما قسم الإخراج وعملت وأنا ما أزال طالباً في السنة الأولى كمساعد لوالدي في إخراج «فيلم النصف الآخر».

معلمك الأول إذاً هو والدك المخرج الكبير أحمد بدرخان ولكنك بعد ذلك عملت مع المخرج العالمي يوسف شاهين، فما سر ارتباطك الشديد به لدرجة أنه قبل أن يعمل معك كمساعد مخرج في فيلمك الشهير «شفيقة ومتولي» وماذا استفدت منه؟
يوسف شاهين مخرج عالمي لن تتكرر علاقتي به، ابتدأت وأنا ما أزال طالباً في المعهد العالي للسينما إذ كان أستاذي بمادة الإخراج المسرحي وبعد تخرجي سافرت في بعثة إلى إيطاليا لمدة عامين، وعند عودتي طلبت منه أن يدربني لأنه مخرج عبقري متميز وصاحب رؤية خاصة، وبالفعل لازمته في البدء، كان يمنعني من التدخل بعمله وكان خطه أسوأ من خط الدكاترة كالطلاسم، ولكنني من ملازمتي له واجتهادي استطعت الفهم على خطه واستيعاب شخصيته، فابتدأ يوليني ثقته شيئاً فشيئا حتى عينني بعد ذلك كمساعد مخرج أول له وكان يقول «أنا أثق في علي بدرخان.. لدرجة أنني لو مش موجود في البلاتوه يمكن أن يخرج مكاني»، أما عن قصة عمله كمساعد مخرج لي في فيلم شفيقة ومتولي فالفيلم كان بالأصل له ولكن أمام ظروف مرضه وسفره للعلاج تخلى لي عنه لأفاجأ بعودته وعمله كمساعد لي، تجربتي مع يوسف شاهين كانت ثرية جداً أضافت لي الكثير فمنه تعلمت أن أكون حرا لا أبالي بأي ضغط أو سلطة في سبيل أن أوصل فني للمشاهدين.
وبمن غير والدك وشاهين تأثرت وكان ذا فضل عليك؟
تأثرت بالمخرج المبدع توفيق صالح من الناحيتين الفنية والإنسانية وهو أيضاً كان أستاذي في المعهد العالي للسينما فضلا عن أنه صديق شخصي لعائلتي لذلك كانت تربطني به صداقة من نوع خاص فقد كنت أعتبره أستاذي وبمثابة الوالد بالنسبة لي وكنت أستشيره بجميع أعمالي الفنية والخاصة أيضاً رحمه الله.

أنت رجل وسيم لدرجة جعلت سندريلا الشاشة العربية سعاد حسني تقع في حبك، فلم لم تعمل بالتمثيل على غرار الفنان الوسيم حسين فهمي الذي درس الإخراج أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية؟
بالنسبة لي كان الأمر مستحيلا لأنني تعودت أن أنظر إلى الكادر السينمائي بعين المخرج وأن أراقب جميع الزوايا الإضاءة.. التصوير.. الديكور.. الممثلين فلو إني عملت بالتمثيل لتشتت تركيزي نتيجة بحثي عن الكمال في جميع الزوايا ولضعف أدائي الفني لذلك اخترت أن اعمل خلف الكاميرا حيث ألم بجميع مجريات الأمور، حتى عندما خضت تجربة الإنتاج الوحيدة في فيلم« اللعنة» فشلت لأنني غير ملم بأمور الإنتاج لذلك آثرت أن أعمل خلف الكاميرا حيث ألم بجميع مجريات الأمور.

تعرفت للمرة الأولى على الفنانة الكبيرة سعاد حسني عند عملك كمساعد مخرج لوالدك في فيلم «ناديه» والذي كان من بطولتها وارتبطتم بعد ذلك بعلاقة حب ورباط زوجي وفني أثمر عن 6 أفلام جميعها من بطولتها فهل السبب وراء اختيارك لها يعود لكونها زوجتك في تلك الفترة؟
إطلاقا، سعاد حسني ظاهرة فنية استثنائية لا يشبهها أحد ولن تتكرر في تاريخ السينما فعدا كونها النجمة الأولى في مصر وفي العالم العربي فهي صاحبة موهبة كبيرة.. خفة ظل متناهية وطيبة قلب لا حدود لها في الوقت نفسه كانت ملتزمة وجادة جداً أمام الكاميرا تأتي دائماً قبل أي أحد لمكان التصوير لتعايش المكان وتتعود عليه وتتقمص الشخصية لذلك فهي نجحت في جميع أدوارها السينمائية سواء التي قمت أنا بإخراجها أو التي أخرجها غيري، فهل بعد كل ما ذكرت لك وعددت من صفاتها وهي في الوقت نفسه أيضاً زوجتي أبحث عن غيرها لأدوار البطولة طبعا سيكون الأمر غير منطقي إطلاقا، لذلك ابتدأت أول أفلامي السينمائية معها وهو فيلم «الحب الذي كان» وحقق نجاحا كبيراً وحصد الجوائز وبعد ذلك توالت الأعمال بيننا في «الكرنك» «شفيقة ومتولي»، «أهل القمة»، «الجوع» واستمر تعاوننا الفني حتى بعد انفصالنا كزوجين لأن صداقتنا استمرت حتى تاريخ وفاتها وقد أخرجت لها آخر أفلامها «الراعي والنساء» من بطولة أحمد زكي.

على ذكر الفنان الكبير أحمد زكي، نحن نعلم أنك كنت معجباً بأدائه أيضا؟
طبعا فأحمد زكي فنان متفرد ذو أداء ساحر آمنت بموهبته منذ أن كان طالبا بمعهد الفنون المسرحية ورشحته لدور البطولة في فيلم «الكرنك» أمام سعاد حسني لكن المنتج اعترض عليه لسمرة بشرته ولأنه غير معروف حينها ولكنني عدت وأسندت له بطولة ثلاثة أفلام هي فيلم «الراعي والنساء» «الرجل الثالث» و«النزوة» وربطتني به علاقة صداقة قوية حتى وفاته رحمه الله.

فيلمك الأكثر شهرة وإثارة للجدل «الكرنك» والذي يشرح بلغة سينمائية رفيعة أحداث قصة نجيب محفوظ لدرجة لا يملك المشاهد إلا أن يتأثر معها بأحداثه ويتفاعل مع أبطاله وأنا أحد هؤلاء المشاهدين المأخوذين بروعة هذا الفيلم والذي يعتبر من أكثر الأفلام إثارة للجدل، كيف وقع اختيارك على هذا الفيلم؟
قد تستغربين إذا أخبرتك أنني كنت أبحث عن نص مشابه لرواية نجيب محفوظ قبل أن اطلع عليها والسبب أن أحد أصدقائي اعتقل بسبب خلفية سياسية وتحت ضغط التعذيب اعترف على أحد أقربائه فاعتقل وعند خروجه من المعتقل قاطعه الجميع حتى عائلته لأنه تسبب بدخول قريبه المعتقل رغم معرفتهم بأنه ذاق من ويلات التعذيب ما لا يحتمل، عندها قررت أن أجسد مأساة صديقي على شاشة السينما كصرخة ضد انتهاك حقوق الإنسان من الأجهزة الأمنية وأساليبها القمعية لذلك عندما قرأت عن قصة نجيب محفوظ في جريدة الأهرام وجدت فيها ضالتي فذهبت إليه لكي أتفق معه على احتكارها سينمائيا ففوجئت به يخبرني بأن المنتج ممدوح الليثي اشتراها فذهبت لممدوح الليثي وقلت له أريد أن أخرج الفيلم ولو بالمجان وفعلا اتفقنا وخرج الفيلم كما أردت تماما وحقق نجاحا كبيراً.

أخذ على فيلمك الكرنك أنه كان يمثل إدانة لحكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فهل لهذا السبب أيضاً كنت بصدد إخراج فيلم يتحدث عن الرئيس المصري الراحل محمد نجيب؟ وما سبب توقفك عن هذا المشروع؟
أنا لم أتعمد إدانة حكم الرئيس الخالد عبد الناصر على العكس تماما أنا من أشد المعجبين بشخصية ووطنية عبد الناصر والجميع يعلم ذلك، وأنا ضد تسييس الفن أي ارتباطه بالسياسة، أنا أؤمن بأن دور الفن الحقيقي هو التركيز على القضايا الإنسانية التي تلامس مشاعر المشاهد وترتقي بأفكاره، وفي الكرنك كنت أعالج قضية اجتماعيه بالغة الأهمية وتتمثل بالقمع والظلم والقهر القسري للإنسان وما يترتب عليه من انكسار وانهزام وانحدار بالقيم الأخلاقية وانعدام الثقة بالنفس وبالتالي تأخر المجتمعات التي يتم فيها مثل تلك الممارسات حضاريا، أما بالنسبة لفيلم محمد نجيب فبالفعل أنا كنت شديد الحماس لإخراج قصة الكاتب الصحفي محمد ثروت التي تسلط الضوء على دور نجيب المهم في ثورة 23 تموز وبعد أن أنهيت من التحضير له وأخذ جميع الموافقات الرقابية عليه منذ عقد من الزمن وبدأت بالتحضير الفعلي له توقف ولم يخرج إلى النور حتى الآن لأن الجهة الإنتاجية التي هي جهاز السينما حفظته في أدراجها.

من وجهة نظرك الفنية كمخرج، أي الأفلام التي أخرجتها كان الأكثر تميزا؟
جميع أفلامي أعتبرها ناجحة ولكن ربما خضت تحدياً من نوع خاص في فيلم «الجوع» لأنه مأخوذ عن ملحمة الحرافيش وكان المخرج الراحل يوسف شاهين يمتلك القصة والتصرف بها لذلك باعها كأجزاء لعدد من المخرجين وأنا كنت منهم فحاولت بذل قصارى جهدي كي يحتوي الجزء الكل وأن أقدم عملا فنيا متكاملا عن الحرافيش، أيضاً فيلم شفيقة ومتولي مثل لي تحديا من نوع آخر نظرا إلى أن أحداثه تقع في حقبة زمنية مختلفة ولذلك كان الاختيار صعبا لاختيار أماكن التصوير الخارجي ولاختيار الملابس ولكن الحمد اللـه الفيلمان نجحا وبشكل كبير.

حزت جائزة النيل وهي أعلى جائزة ثقافية يمنحها المجلس الأعلى للثقافة ولقد كنت المخرج الثاني الذي يحصل عليها بعد المخرج العالمي يوسف شاهين، فما شعورك بهذا التكريم؟
– أنا على الرغم من حصولي على جوائز وتكريمات متعددة من المؤسسات الرسمية والمهرجانات في مصر وفي مختلف الدول العربية فإنني لا أخفي عليك أنني كنت في غاية السعادة بهذا التكريم بالذات لأنه التكريم الأعلى والأغلى في حياتي وجاء كتقدير من الدولة على مجمل أعمالي الفنية خلال مسيرة حياتي الطويلة.

جميع أفلامك تركت بصمة واضحة في تاريخ السينما المصرية، بعد انقطاع طويل عن الإخراج وبعد الأزمة الخانقة التي تمر بها صناعة السينما المصرية، هل من بشائر تلوح بعمل جديد تخرجه بالأفق القريب؟
الموضوع ما يزال مجرد تكهنات لا أعلم متى تغدو حقيقة، المشكلة كما تعرفين تعود برمتها لعدم توافر جهة إنتاج واعية تدرك أهمية العمل السينمائي فالدولة رفعت يدها عن الإنتاج السينمائي وتخلت عنه مع أنه القوة الناعمة القادرة على تحريك الشارع العربي بشكل أكبر من أي خطاب سياسي وتركت المهمة للقطاع الخاص الذي يتألف بأغلبيته من منتجين محدودي الثقافة يقومون بسرقة أعمال أميركية ومصرنتها بطريقة غبية من دون ذكر المصدر أو إعادة صياغتها بطريقه تتلاءم مع واقعنا المصري، لذلك يجب على الدولة أن تعود لممارسة دورها المهم في إنتاج أعمال فنية هادفة تعبر عن هموم الشارع المصري، أما من جهتي فعندما أجد النص المناسب والجهة الممولة التي تحترم شروطي من دون أي تنازلات سأعود على الفور.

وإلى أن تعود أنشأت أكاديمية بدرخان للفنون؟
أنا ما أزال أستاذا لمادة الإخراج بمعهد السينما كما أنني أعلم أجيالا في أكاديميتي أهمية الفن السينمائي في تقدم وترقية المجتمع، أعلمهم أهمية الثقافة وإجادة لغتنا العربية الأم، تعلم اللغات الأجنبية أمر مهم لأنه يجعلنا ننفتح على ثقافة الآخرين لا أن نتخلى عن ثقافتنا وهويتنا العربية كما أنني أهتم برفد الفن السابع بنخبة موهوبة من الشباب الواعد سينمائيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن