من دفتر الوطن

مرآة أوروبا… المكسورة

| حسن م.يوسف

لست من هواة ترويج الفضائح، كما يعلم قارئي المتابع، لذا لم أكرس مقال الأسبوع الماضي لفضيحة دير شبيغل (Der Spiegel)التي انفجرت قبل حوالى أسبوعين. وقد فضلت التريث لأن دير شبيغل التي يعني اسمها (المرآة) يعتبرها كثيرون (مرآة العالم). والحقيقة أن هذه المجلة الأسبوعية المصورة التي تصدر في هامبورغ، تعتبر من أشهر المجلات الإخبارية، لا في ألمانيا وحدها بل في أوروبا كلها لكونها تطبع كل أسبوع 840,000 نُسخة ورقية، ولديها أكثر من 6.5 ملايين قارئ لنسختها الإلكترونية.
وقد كان من الممكن أن أتجاهل نهائياً فضيحة الصحفي كلاس ريلوتيوس الذي سمح لنفسه أن يختلق قصصاً وشخصيّات لما لا يقل عن أربعة عشر مقالاً صحفياً نشرها في مجلة دير شبيغل. فأنا لا أعتبر التحايل لقول الحقيقة شيئاً سيئاً، والحقيقة أن هذا ما يفعله الفنانون دائماً، فهم، عكس السياسيين، يكذبون لقول الحقيقة، وعندما تضيق أمامهم سبل التعبير قد يجعلون الحيوانات تتكلم نيابة عنهم، كما فعل ابن المقفع في «كليلة ودمنة». ولهذا يقول أجدادنا: «أعذب الشعر أكذبه».
المفاجئ في الأمر هو أن ديرشبيغل نشرت في عددها لهذا الأسبوع اعتذاراً غطى ثلاثاً وعشرين صفحة عن كيفية تزوير الصحفي كلاس ريلوتيوس، قصصًا إنسانية نشرتها على مدار سنوات. وريلوتيوس هذا ليس ابن البارحة فهو يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً وقد فاز بجائزة مراسل العام في ألمانيا ثلاث مرات كما فاز بالجائزة نفسها للمرة الرابعة في مطلع كانون الأول الجاري عن «قصة شبان سوريين ساهموا في انطلاق تظاهرات 2011».
وكان قد فاز بجائزة الصحافة الأوروبية في العام الماضي، وبجائزة سي إن إن لصحفي العام 2014، كما فاز بجائزة أفضل قصة مطبوعة عن سجناء أميركيين يعانون من الخرف.
المهم في الأمر هو أن الصحفي كلاس ريلوتيوس لم يقم بالتلفيق لخدمة الأكذوبة فحسب! بل إنه حول الأكذوبة إلى صنارة وراح يصطاد المال بوساطتها.
فهو لم يكتف بتلفيق تقاريره الصحفية فحسب، بل إنه مارس السرقة بالاعتماد على تلفيقه، فبعد أن لفق قصة اليتيمين السوريين «أحمد وألين» قام بتنظيم حملة واسعة لجمع التبرعات لأجل الأيتام السوريين. وتفيد التحقيقات أن جميع التبرعات قد حُولت إلى حساب كلاس ريلوتيوس الشخصي، أي إنه سرق أموال الأيتام!
في ختام هذا المقال اسمحوا لي أن أذكركم بأفكار جاءت في فيلم «رجل الثورة» الذي كتبت له السيناريو وأخرجه المبدع نجدة إسماعيل أنزور. يقول (أمير) الإرهابيين للصحفي الإنجليزي جون رايلي الذي تسلل إلى سورية بشكل غير قانوني بعد أن نشر في جريدته تقريراً ملفقاً عن أحداث درعا: «أنت وأنا نعلم أن المقالة ملفقة، وأن ما كتبت أنه حصل في درعا، لم يحصل، وأنك لم تطأ درعا أبداً، فماذا تريد أن تثبت من خلال هذا كله؟» يجيبه الصحفي: «إن الحرب هي مملكة الأكاذيب، وأنا مستعد لأن أكذب كي أدعم وجهة نظرك». يضحك الأمير ويسأل رايلي: لماذا تريد أن تكذب كي تدعم قضيتي؟ عندها يخرج رايلي كتيب الصور الفائزة بجائزة بوليتزر من عبه ويعرضه على الأمير قائلاً: أريد أن ألتقط صوراً كهذه، بل أفضل منها كي أفوز بجائزة الصحافة العالمية للتصوير.
يستعرض الأمير الصور ويمررها لرجاله ثم يحدق في عيني رايلي محذراً إياه من خداعه فيؤكد له أنه لن يفعل ثم يقول له: يا صاحب السماحة، إن وسائل الإعلام هي من أسلحة الدمار الشامل، وأنا مستعد لأن أضع هذا السلاح تحت تصرفك.
يحدق الأمير في عيني رايلي وفجأة يبتسم له ويمد له يده مصافحاً. يشد الرجلان كل منهما على يد الآخر وتلمع عيونهما كما لو أنهما يعقدان صفقة شيطانية.
السؤال: هل وقع الصحفي كلاس ريلوتيوس صفقة شيطانية مع طرف ما، قبل أن يلفق مقالاته عن سورية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن