ثقافة وفن

ضرب من الغفلة

| إسماعيل مروة

ما نشهده اليوم من كثير من المسؤولين لا يمثل إلا الغفلة بأسوأ مظاهرها، الغفلة التي تخدع صاحبها وتزين له أن التضييق على المواطن فيه الذكاء والخدمة للدولة السورية.
أن تتحدث عن الحرب وتبعاتها، وأن تتناول الكوارث التي تمت، وأن تتحدث عن النتائج السلبية التي أشبعت الحياة السورية، وأن وأن..
قد لا يكون مجدياً أن تفعل ذلك اليوم، فالمواجهة مختلفة تماماً عن المعالجة، وما كان صالحاً لسنوات الحرب لم يعد صالحاً اليوم، فللحرب رجالاتها ونساؤها وتجارها، أما ما بعد الحرب فهي فاصلة مختلفة تماماً، فحين تضع أي حرب أوزارها تغيب الشخصيات المشعِّلة والنفعية إن أردنا أن نبني الغد الأفضل، ومنذ الأيام الأولى للحرب قال كثيرون، وأنا منهم، إن الشخصيات التي ستبني سورية ليست هي هذه التي نسمع تجييشها وجعجعتها، ونار فتنتها، واليوم وبعد ثماني سنوات، ها نحن نشهد اختفاء أسماء كبيرة من المشهد، ونسمع شتم الذين أشعلوا الفتنة ونار الحرب من واحد من رموزها، وهو صاحب علاقة بالثقافة والفلسفة، وقد أدرك متأخراً أن دوره انتهى ولم يعد له من مسرح يلهو به، وأن دعواته لضرب سورية ودمشق كانت ضرباً من الخيال السياسي والجنون، فعبّر بلفظ جارح أجلّ الكتابة عن ذكره.
الغد الذي بدأت تباشيره مختلفة للغاية، وهنا يحضرني ما قرأته في مقالات الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي عند زياراته لليابان، وقد ورد أن الإمبراطور زار موقعي القنبلتين النوويتين وقال: الأمر كارثي وصعب، ولكننا سننهض! وبالفعل نهضت اليابان مع إمبراطورها نفسه، فقد وضع خطة علمية أخرجت اليابان من كارثته لتتحول اليابان إلى ما هي عليه الآن.. والتباشير التي نراها اليوم توحي بلا أدنى شك أن سورية يمكن أن تكون شعلة المشرق والمنطقة العربية، فبعد صمود أسطوري، وبسالة جيش ومواطن، وتحديات الحياة والعمل من المواطن السوري الذي وقف في الداخل خلف قيادته، ولم يقبل تبديل مواقفه مهما كانت التضحيات، بعد هذا كله لابد من القول: إن القيادة مع هذا الجيش وهذا الشعب تملك القدرة على النهوض، بل تملك القدرة على الإعمار بخلاف كل المخططات الخارجية، فإن كانت كل البلدان تحتاج إلى القروض والهبات وأشياء كثيرة لإعادة الإعمار، فإن سورية التي بقي الإنسان فيها على مبادئه لن تخضع للمليارات التي يسيل لعابها، وهي بقدرتها الذاتية قادرة على إعمار الكثير والترميم والتخطيط، وفي زمن قصير نسبياً ستخرج سورية معمرة الأرض والإنسان بخلاف ما يظنون، لقد أثبتت سورية وخلال سنوات الحرب أنها عصية على الحرب الأهلية، مع أنهم بذلوا جهوداً لإيقادها، وعصية على الحرب الطائفية مع أنهم لوحوا كثيراً بها، وعصية على الفوضى وإن عملوا على ذلك حتى تهيأ للمرجفين أنها قاب قوسين من الفوضى!
واليوم تقتضي المرحلة السورية الجديدة تعاملاً مختلفاً، فالسوري الذي جابه القذائف واكتوى بنارها، والذي دفع الشهداء الكثر لن يكترث لأي شيء، وهو يرى العودة لكل آبق ولكل خصم لسورية الدولة والقيادة، ولكن ليس من حق أحد في الحكومة، وثمة فروق بين الدولة والحكومة، ليس من حق أي فرد من الحكومة أن يسيء إلى المواطن وحياته ولقمة عيشه تحت أي ذريعة كانت، وكل ما نراه اليوم من عقوبات وصعوبات ما هي إلا محاولات لإفشال مشروع سورية الجميلة بعد الحرب، ولن تعطي أي نتائج، فما كان من الحرب أدهى وأمرّ وأصعب، وعدم شعور أعضاء الحكومة بمعاناة الناس ليس من توجيهات، وليس سياسة عليا، وإنما هي سياسات تنفيذية يريد بها البعض الإساءة إلى المشروع الإصلاحي السوري.. فكل وسائل الحياة كانت متاحة في الحرب، ولم تحل الحرب يوماً دون وصولها لكل السوريين، واليوم بعد انتهاء الحرب نجد من يحاول أن يسلب المواطن متطلبات الحياة، ألا يملك هذا ذاكرة تخبره بأن ما يتلاعب به اليوم في السلم وعودة الحياة كان متاحاً في الحرب؟!
ألا يخطر ببال وزرائنا أن الكهرباء كانت أفضل، وفواتيرها كانت أكثر إقناعاً، وأن الغاز والمازوت كانا أكثر توفراً؟ لاشك بأن هؤلاء يريدون مكافأة المواطن السوري الصابر الصامد، الواقف ضد الحرب بثبات وذلك بأن يضاعفوا سعر أسطوانة الغاز، وسعر ليتر المازوت، وسعر ربطة الخبز، فهذا المواطن يملك الكثير، ويجب أن يكافأ بتفريغ جيوبه، وهو سيفعل! لكنه لن يتحول إلى متسول عندهم، ولن يكفَّ عن انتقاد أداء السادة الوزراء، فهم وجدوا لخدمته وأداء واجباتهم، وهم واهمون إن ظنوا غير ذلك، وإن شاؤوا فلينتظروا إلى قوائم الذين كانوا وهم اليوم ليسوا موجودين، وليتخيل كل واحد منهم نهايته ومغادرته للموقع..
اليوم أنت وزير تتحكم بالغاز والخبز، لكنك في الغد لست كذلك، أما المواطن فما من أحد يستطيع أن يسلبه مواطنيته لأنه الأبقى، فلتتعلم منه كيف تكون مواطناً، حتى إذا عدت لا يلفظك الوطن، ولن تجديك أموالك المودعة في الداخل والخارج!
الحرب لم تستطع أن تفتّ من عضد الإنسان السوري، والفاسدون والسلطويون المنحرفون لم يستطيعوا حرف رؤيته الصائبة في حب وطنه، وستبقى سورية بمواطنها الذي يزرع ويبيع ويخسر ويربح ولا يعبـأ بكيد مسؤول طارئ، لم يستطع أن يكون بمستوى سورية وسياستها وتطلعاتها ومشروعها الذي سيلفظ كل المصلحيين وإن طال الزمن.. ولن تكون سورية إلا بالنهوض الجمعي الذي لم يستطع الكثيرون تفهمه في غمرة امتيازاتهم التي أسكرتهم عن رؤية الحق!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن