قضايا وآراء

«حشو» سياسي

| مازن بلال

تتشكل توازنات المنطقة ابتداء من الشمال الشرقي لسورية، وهي المنطقة نفسها التي خلقت أزمات في بداية القرن الماضي، وبالتحديد مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانعقاد مؤتمر الصلح في باريس، فشرقي الفرات مساحة تصعب قراءتها في ظل عدم القدرة على حسم القرارات الإقليمية، فلا الولايات المتحدة قادرة على فرض واقع جديد من دون خسارة بعض حلفائها، ولا روسيا راغبة في تحديد شكل التوازن الجديد لشرقي المتوسط عموماً، ففي سورية «حشو سياسي» في التصريحات والمواقف الإقليمية، على حين لا يستطيع أي طرف فاعل الذهاب برهانه حتى النهاية.
عملياً فإن واشنطن التي تسحب قواتها من سورية لا ترى في هذا الأمر سوى ترتيب عسكري سياسي، ورغم التناقضات الصادرة عن الإدارة الأميركية بخصوص موقفها من شرقي الفرات، لكن الواضح أن أي معركة في سورية هي «هامشية» للرئيس الأميركي دونالد ترامب، فالإستراتيجية الأميركية تنطلق اليوم من خلال مسألتين:
– الأولى تجزئة مساحات الصراعات القائمة التي تشكل جزراً جغرافية من اليمن ومروراً بالسودان ووصولاً إلى ليبيا، فواشنطن التي تحافظ على مناطق التوتر تريد على الأقل جعل هذه الصراعات دافعا لتشكيل جبهة سياسة واحدة.
تستعيد الولايات المتحدة عبر الصراعات القائمة بناء إستراتيجيتها في المنطقة، ورغم أن أولوياتها لا تنصب حول شرقي المتوسط لكنها في الوقت نفسه لا تريده أن يصبح ملعباً لمنافسيها، وزيارة وزير خارجيتها مايكل بومبيو إلى المنطقة أتت لتأكيد حضورها رغم برود سياستها تجاه بعض الصراعات، فالإدارة الأميركية في ظل الانقسام الذي تشهده تجاه سياسات رئيسها؛ لا تستطيع التعامل مع الصراعات بشكل أقوى.
– المسألة الثانية واقع توزيع القوة الذي تتبعه وعلى الأخص في المحيط الجغرافي لسورية، فانسحاب قواتها الذي خلق إرباكاً لدى حلفائها هو في النهاية اختبار لجبهات سياسية يمكن أن تتشكل لاحقاً.
لم تكن واشنطن في الماضي مضطرة لخلق توازن في علاقاتها بين تركيا والسعودية، لكنها حالياً تسعى لهذا الأمر بعد أن أصبحت الرياض وأنقرة قطبين في شرقي المتوسط، وتركيا التي تبدو أقرب إلى روسيا في سياساتها الإقليمية تشتبك سياسياً مع الرياض في التوجهات العربية والإسلامية، وتبدي الولايات المتحدة مرونة تجاه تركيا لإعطائها مساحة لنفوذها تبعدها عن التصادم مع السعودية، وفي شرقي الفرات سيظهر هذا الاستحقاق بشكل واضح في حال تم الانسحاب الأميركي بشكل كامل، لأن هذه المنطقة شكلت جملة ولاءات خلال الأزمة السورية موزعة بين الأطراف الإقليمية، وهي ستواجه صداماً بين هذه الأطراف للوصول إلى توازن غير محدد حتى الآن.
مشكل الأزمة السورية أنها لا تتيح لأي طرف دولي أو إقليمي فرصة للنصر والهزيمة، وهي كأي نزاع دولي تتيح إمكانية توازن مختلف بين الأطراف، لكنها في الوقت نفسه تفتقد للتصورات التي يحملها الأطراف لنوعية العلاقات التي يمكن أن تنشأ مع نهاية الأزمة، فهناك نوع من الاستسلام للتداعيات التي تخلقها الأزمة، وصعوبة أيضاً في الاعتراف بأن الجميع عاجزون عن تبديل الواقع والذهاب نحو إستراتيجيات جديدة، فلحظات القوة القليلة لبعض القوى الدولية تدفعهم لتصريحات لا جدوى منها، مثلما تفعل فرنسا عند الحديث عن بقاء قواتها في سورية، أو حتى عبر مواقف البنتاغون من مسألة سحب القوات واعتباره إعادة انتشار، فالجميع يعرف أن توزيع القوة بين شرق وغرب الفرات اتخذ مساراً خطيراً لا يمكن التعامل معه بالتصريحات، بل لا بد من إستراتيجيات أكثر وضوحاً لكنها تبدو مؤلمة للجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن