ثقافة وفن

الطلل.. والأرض اليباب

| إسماعيل مروة

الوقوف على الأطلال ظاهرة عربية بامتياز، فتراثنا الفني الممتد يحفل بالشعر الذي يقف ويستوقف على الأطلال إلى درجة يصل فيها إلى إيقاف عجلة الزمن، فهذا يبكي خيمة، وذاك يحن إلى الحمر الوحشية، وثالث يبحث عن بعر الآرام في ساحاتها، وفي أحسن الأحوال يسأل أحدهم عن محبوبة أو غزال أو خيمة، وإذا أحسنا الظن فإننا نعد هذه الخيام والأطلال وطناً، فهو يتحدث عن وطنه ويحن إلى وطنه دوماً، ويمكن أن يتفلسف أحدنا في تفسير هذه الظاهرة تفسيراً أيديولوجياً يتعلق بالانتماء إلى الوطن والقبيلة والعشيرة، وامتد بنا الأمر حتى عقدنا لهذه الظاهرة الدراسات التي تجعلها ظاهرة مشرقة، ولكن لم نقف يوماً على أنها حالة اجتماعية وكفى.. مثّلت حياة عربية في ذلك الزمن البعيد، وخرج العربي منها إلى حالة حضرية مختلفة.
بل إن الشاعر الرومانسي الدكتور إبراهيم ناجي عارض هذه الظاهرة وعاشها في رائعة (الأطلال) وكأنه يحنّ إليها ويود أن يبقى بين الذكريات الدارسة المنتهية التي تعيش في أطلال ذاكرة تتلاشى! وحتى على الصعيد الاجتماعي لا يزال العرب يصنعون الخيام ويتفننون بها على أنها تراث جميل، وتحولت الخيام وأطلالها للتعبير عن ظواهر حضرية، وكم رأينا من خيام في قلب الأندية الحديثة والفنادق المختلفة!
و(ت.س.إليوت) أطلق قصيدته (الأرض اليباب) والتي شكلت علامة شعرية حديثة وعظيمة، نالت الكثير من العناية والدراسة، وعدد من الشعراء العرب تناوبوا على محاكاته وتقليده من دون أن يصل أحدهم إلى رؤيته، فثمة فرق كبير بين الأطلال والأرض اليباب، غادرها إليوت، وغادرها شعراء تلك المرحلة من الغربيين ليصنعوا قصائد تمثل الأرض اليباب قاعدة فكرية وفنية لها، ومكث شعراؤنا ونقادنا عند الأرض اليباب ولم يخرجوا منها وكأنها جزء من الأطلال الدارسة لديهم..! هل كتب على التفكير العربي أن يبقى أسيراً للحظة اجتماعية أو إبداعية من دون أن يتجاوزها إلى سواها؟
مهما كانت اللحظة جميلة، فإن اللحظة القادمة أجمل، والحياة تبدأ غداً، ويمكن للحياة الجديدة أن تستمر من دون دلّة وقهوة مرة، ومن دون هيل زيادة، والتمسك بالقهوة العربية لا يعني أننا الأفضل والأسمى، ولا يعني أن قهوتنا التي نتناولها تركية خالصة، وإن جاءتنا عن طريق الأتراك، وكانت المكسب الوحيد من احتلال دام أربعمئة سنة، فأربعمئة سنة من الاحتلال والتخلف أعطتنا فنجان قهوة، لا نزال بعد مئة سنة من خروج الأتراك نعيده إليهم، ولا نعدّه من أصالتنا.. لأن فنجان القهوة المرّة العربية سيزعل منا ويرى أننا تنازلنا عنه ونسيناه لفنجان يترسب فيه البن، ولا يحمل النكهة ذاتها!
الطلل ظاهرة ماضٍ تمثل جوهر تفكيرنا، فالعربي كانت حياته كذلك ونحن ندرسها كظاهرة، وهذا الأمر يمكن أن يشمل كل الحياة السابقة وخاصة في الطامة الفكرية التي نحياها، وعلينا أن نعطي أنفسنا قيمتها الفكرية والحياتية، وأن نقتنع بأننا يمكن أن نجتهد ونقدم أفضل من ذلك الذي نبجله ونجّله، والذي عاش في ظروف مختلفة، ولا يملك أدواتنا التي نملكها! أم إننا يجب أن نخلع كل شيء لنتابع أولئك الذين لم يملكوا أي عنصر مما نملك!
إنها ظاهرة فكرية أكثر من خطرة وصلت بنا إلى تقديس الأشخاص والآراء والسابقين، وجعلتنا في حالة صنمية هي أبعد ما تكون عن التوحيد الذي ندّعيه.
وللحق فإننا حتى في عودتنا إلى الماضي نختار ما يناسبنا، وكل ما نقبل عليه هو ما نراه في صالحنا وحسب، فالمتدين يرفع شعارات فقط حسب الحالة التي هو فيها، وقد تحاورت مع كثيرين، قالوا كلاماً جميلاً، لكنهم يتصرفون ضده، ففي تعازي كبار القوم والأغنياء حتى وإن كانوا من اللصوص يتسابق السادة المشايخ ورجال الدين للحديث عن فضائل يختلقونها، وتكتظ المنصة بالراغبين في الحديث عن الراحل الذي لا يعني لهم شيئاً، وإنما الذي يعنيهم هو المتنفذ الذي يتابع الوقائع، وعلى المنبر يتحدث هؤلاء عن المساواة وبأنه لا فرق بين وبين، ويعددون، وربما بكى أحدهم خشوعاً في حديثه! ولكن في يوم تالٍ يتوفى شخص يعرفونه ويعرفون صلاحه وبساطته ودروشته، فيمرض هذا الشيخ وتنتاب الآخر نوبة كريب، ويسافر ثالث، وينشغل رابع، وعندما يحين الدعاء لا يجد هذا المتوفى من يدعو، فيزعل أهله، وهم لا يدركون أنه لا يحتاج إلى دعائهم، وأنه في مرتبة لا يصلونها!
يقولون: نهاية الحياة لحظة مساواة، لكنهم يتصرفون عكس ذلك، فهل أقبل أن ألتحف عباءاتهم لأنهم يمثلون ماضياً مقدساً؟
أحدهم وهو صاحب علم، ويدعي حب النبي وآله، وفي كل مرة يناقشني في أمر تجديد إيماني! كأنني خارج عن الدين والملّة! كنت أجلس معه، فنفر من مجالسة أحد أصحاب البشرة الداكنة، واستمر في الحديث، ولم يستطع أن يخفي مشاعره، ليقول: حاشا لله أن يساوي بيني وبين هذا الشخص، وتبيّن أنه لا يحتمل أصحاب البشرة الداكنة! بل وصل الأمر بتعابيره إلى القرف والتقزز! وما تقول أيها الشيخ ببلال؟
ولم تجدِ معه كل المحاولات في أن يغطي على حقيقته، واكتشف أن إيمانه هو الذي يحتاج إلى تجديد، وإلى تجديد كامل، واكتشف أنه على يدي مارق يجب أن يعيد تجديد إيمانه!
أما آن لنا أن نقلب الطاولة؟
أما آن لنا أن نعيش حسب قناعاتنا؟
أما آن لنا أن نكون صادقين؟
وبعد ذلك نشتم الآخر لأنه لا يحبنا، ونجد أننا صادقون حتى النخاع!
كفى دجلاً أيها السادة، ولا من مبرر يجعلنا نكذب، فإذا كنا ونحن في الدرك الأخير تخلفاً وسياسة وثقافة ومجتمعاً نأنف من هذا ونبتعد عن هذا، ونبيع أدعيتنا للأغنياء والمسؤولين والمتنفذين، ولا نشارك الفقير حتى الدعاء فما ننتظر؟
اخرجوا من الأطلال ورسومها وبعر آرامها!
أيقنوا أن أرضكم يباب، وهي بحاجة إلى قلب تربتها النفسية والاجتماعية والعقيدية، لنصل إلى حالة من العيش المناسب، ولا أقول إلى الحالة الطهرية، فهي حالة صعبة!
انزلوا عن ظهور الناس، وانتم أنزلوهم..
لا تقبل منه أن يدعوك للجود والكرم والتصدق، وأنت غير قادر على كسب لقمتك، وهو يرفل بكل أسباب المال والوجاهة.. قف على أطلالك وروحك وارقب غدك.
الخلد أنت، والخلود أنت من ترسمه ولا أحد سواك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن