شؤون محلية

مدونة العدالة

| نبيل الملاح - باحث ووزير سابق

بداية لا بد من التذكير بالمقولة الأزلية الأبدية «العدل أساس الملك» هذه المقولة التي ستبقى على ما يبدو حلماً فشلت البشرية في تحقيقه خلال مختلف العصور والأزمنة، باستثناء مراحل نزول الرسالات السماوية الثلاث التي أضاءت للبشرية مشاعل النور والخير والسلام والمحبة ووضعت منظومة أخلاقية متكاملة.
لقد جاءت الرسالات السماوية لتصنع وترسخ القيم الأخلاقية على المستويين الفردي والجمعي، فقدمت للبشرية منظومة أخلاقية متكاملة، وتميز الرسل والأنبياء بالأخلاق الحميدة التي جعلتهم قدوة للناس في دينهم ودنياهم، لكن الحكام الذين تحلوا بالأخلاق الحميدة وأقاموا العدل كانوا قلة!! وإذا عدنا إلى التاريخ نجد أن الظلم والفساد كانا السبب الأهم في سقوط الدول والإمبراطوريات، حيث إن الظلم يعطل العدل، والفساد يؤدي إلى اضمحلال القيم الأخلاقية، ومن دون العدل والأخلاق لا تستقيم الحياة على المستويين الخاص والعام.
إن بناء الدولة لا يكون سليماً إلا إذا كان مثلثه العلم والسياسة والأخلاق، وإن التنمية الأخلاقية يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع التنمية العلمية، وتبقى الأخلاق الأساس الصالح لتوجيه سلوك الفرد والمجتمع بالاتجاه الصحيح الذي يؤدي إلى تحقيق العدالة ومنع الظلم ومحاربة الفساد بكل أشكاله.
والتاريخ يشهد، وواقع عالم اليوم يقول: لقد فشلت السياسة التي ابتعدت عن الأخلاق واستبدلتها بالمصالح التي هي من حيث النتيجة وعندما لا تتوافق مع الأخلاق، مضرة بها وبأهلها، فأهم ما تدعو إليه القيم والمبادئ الأخلاقية إظهار الحق والحقيقة باعتبارهما سر الحياة وأساس استقرارها.
وتأكيداً على ما قلته في مقالات سابقة بأن القضاء هو الطريق إلى تحقيق العدالة والإنصاف ومنع الظلم والاستغلال، وهو الميزان الذي يوازن بين جميع أطراف المجتمع ومكوناته السياسية، وهو الذي يضمن تطبيق القوانين وتنفيذها بالشكل الصحيح ومنع تجاوزها والتعدي عليها، فإن واقع الحال يفرض علينا جميعاً أن نسعى إلى تحصين المؤسسة القضائية وإزالة الشوائب كافة التي لحقت بها وإبعادها عن مكامن الشبهات، فهي ملاذنا جميعاً حكاماً ومحكومين.
وحيث إن القضاة والمحامين هم جناحا العدالة، فمن الضروري العمل على وضع «مدونة» مشتركة يتم إعدادها من مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين، تتضمن المبادئ والمعايير التي يجب على القاضي والمحامي الالتزام بها وعدم تجاوزها، والاستعانة بكبار القضاة والمحامين الحاليين والسابقين، وطرحها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإبداء الرأي والملاحظات من المختصين والمهتمين، وإصدارها أصولاً لتكون ملزمة.
وأعرض فيما يلي بعض المبادئ والمعايير التي أراها أساسية في هذه المدونة:
1- إن سلطة القاضي وحصانته يجب أن تكونا دافعاً له للتعامل مع المواطنين والمتداعين الذين يقفون أمامه بالأسلوب الذي يحفظ كرامتهم وإنسانيتهم بعيداً من التعالي والفوقية، وأن يفرق القاضي بين المتهم والمجرم والمدعي الذي يطالب بحق والمدعى عليه الذي له الحق أن ينفي وجود هذا الحق بالدليل والبينة.
2- إن سلطة القاضي تنحصر بالحكم بالدعاوى والقضايا المنظورة أمامه وفقاً للقوانين والتشريعات النافذة، وفي حال وجود نص قانوني بحاجة إلى تفسير فإن ذلك يجب أن يتم من السلطة التشريعية التي أقرت القانون أو الهيئة العامة لمحكمة النقض أو إدارة التشريع لدى وزارة العدل – حسب الحال- ولا يجوز أن يقوم القاضي بتفسير نص قانوني بحكم يصدره خلافاً لغاية المشرع وقصده وما جاء في الفقه القانوني.
3- يجب على القاضي أن يرتقي بعلمه وعمله وسلوكه المهني والشخصي إلى مستوى عالٍ يجعله بمنزلة رفيعة ومحل احترام وثقة وتقدير الجميع، فالقضاة هم الشريحة الأهم في بناء الدولة والمجتمع.
4- يحظر على القاضي إبداء الآراء والميول السياسية والاشتغال بالسياسة، وعليه عدم الظهور في وسائل الإعلام إلا بتكليف من المرجع القضائي المختص وبأضيق الحدود.
5- القضاء مؤسسة عدل وإنصاف وليس مؤسسة اصطياد المتقاضين بأخطاء لا قيمة لها على شكليات وموضوع الحق المدعى به، وعلى القضاة التقيد بهذا المبدأ تحقيقاً لشعار «نحو قضاء عادل وسريع».
6- إن التأخيرات الطويلة غير المبررة في البت بالدعاوى تشكل إنكاراً للعدالة، ويجب على القاضي حسم النزاع في أجل معقول لا يتجاوز ثمانية أشهر.
7- إن حق المحامي بالدفاع عن موكله يجب أن ينطلق من الحرص على الدفاع عن أصحاب الحقوق وليس للدفاع عن الذين يعتدون على حقوق الآخرين ويغتصبونها، ولا يجوز اتباع أسلوب المماطلة والمراوغة في الدعوى من خلال الاستفادة من بعض النصوص القانونية التي تساعد على ذلك، ما يؤدي إلى ضياع الحقوق وإهدارها بمرور الزمن، والإخلال بحسن سير العدالة وإعاقة البت بالدعوى وتنفيذ الأحكام الصادرة.
(وحبذا لو يستغني السادة المحامون عن عبارة: ننكر ما جاء في لائحة الادعاء جملة وتفصيلاً) هذه بعض المبادئ والقواعد والمعايير أضعها برسم مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين كورقة عمل لإنجاز المدونة المطلوبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن