أخرجت الولايات المتحدة أرنباً من قبعتها، رمته أمام ثلاثي أستانا، وما كاد الأرنب يلوح للأتراك حتى بدؤوا العدو وراءه، وإن بحذر شديد، بعد تعلمهم «المر» من تجارب طويلة مع أرانب الساحر الأميركي.
للتعرف أكثر على مجريات الحراك الدبلوماسي حول سورية، يمكن الاستعانة بإحدى أكثر المعضلات دراسةً في علم العلاقات الدولية، إلا وهي: «معضلة صائد الأرنب»، حيث يستخدم دراسو العلاقات الدولية هذه المعضلة لفهم نظم التحالفات بين الدول، والتفاهمات المشتركة، وهي كناية عن اتفاق مجموعة من الصيادين على تعقب غزال في الغابة لاصطياده واقتسامه بينهم، فيضرب الصيادون طوقاً حول كل المداخل والمخارج القريبة من مكان الغزال، ويرابط كل صياد على مقربة من أحد المخارج، آخذاً في انتظار الطريدة، لعل الغزال يخرج فيقوم باصطياده.
أحد الصيادين يلحظ أرنباً بجواره، فيقرر أن يترك مكان مرابطته بجانب أحد المخارج منفكاً بذلك عن بقية زملائه الصيادين، ويلحق بالأرنب على أمل اصطياده، الغزال يدرك الثغرة المفتوحة ويسارع إليها، وينجح بالفرار من الطوق المحكم، وينجو، وبقية الصيادين يعودون بخفي حنين.
تنطبق هذه المعضلة، بشكل أو بآخر، على ثلاثي عملية أستانا؛ فروسيا، إيران وتركيا تجمعوا ضمن إطار هذه العملية، بهدف مواجهة الإستراتيجية الأميركية في سورية، التي رأوا فيها مخاطر على سياستهم أو أمنهم القومي، وكان الهدف الذي عمل عليه ثلاثي أستانا خلال العام الماضي، سواء بشكل مشترك أو منفصل، هو إنهاء التدخل الأميركي في مناطق غرب سورية، ومنع الولايات المتحدة من تنفيذ عمليات فيها، وإخراج الأميركيين وحلفائهم من كامل تلك المناطق.
هكذا ترافق إعلان المبادئ حول إنشاء مناطق خفض التصعيد في نيسان الماضي، بتأكيد روسي على إغلاق مناطق غرب سورية أمام الطيران الأميركي، الذي لا يزال ينفذ عمليات في إدلب تحت عنوان مكافحة إرهاب مسلحي تنظيم «القاعدة» و«هيئة تحرير الشام» أي «جبهة النصرة» سابقاً.
لدى تمكنهم من فرض إيقاعهم على التطورات في غرب سورية، وتلافي الانقسامات بينهم حول إدلب بعد اتفاق سوتشي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، بدأت الدول الضامنة لعملية أستانا، تعد العدة للتضييق على الوجود الأميركي في شرق سورية، وتحت غطاء التصريحات النارية التي أطلقتها الدبلوماسية الروسية، ضد «الوجود الأميركي غير الشرعي» في شرق سورية، صعّد أردوغان من تهديداتها الكلامية ضد مليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية المتحالفة مع واشنطن، ملوحاً بشن هجوم على شرق سورية حتى «في ظل الوجود الأميركي هناك».
وعندما أعلن ترامب قراره الانسحاب من سورية، بعد اتصال هاتفي مع نظيره التركي، بدا وكأن الأخير قد انتصر وأنه نسي شركاءه في عملية أستانا، إلا أنه كان انتصاراً سابقاً لأوانه، فلقد أوضحت زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون أن إدارة ترامب تصر على تأمين الحماية لـ«وحدات حماية الشعب» من الانتقام التركي، وأنها تربط انسحاب الجيش الأميركي وسحب عتاده والأسلحة التي سلمها لـ«وحدات حماية الشعب» بمرونة تركية.
لم يتمكن أردوغان من استكمال انتصاره فعاد وطرق الباب الروسي، الذي وجده موارباً، وسط الجمود وتصاعد المخاوف الإقليمية من المطامح التركية، وقد حط المبعوث الأميركي الجديد إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش جميس جيفري رحاله في أنقرة بمهمة غير معلنة تهدف التفاوض مع الأتراك حول إقامة منطقة آمنة على الحدود السورية التركية.
وجد الأتراك العرض الأميركي مغرياً إلى أبعد حدود، فالمنطقة الآمنة، سبق أن كانت مطلباً تركياً مزمناً للتعامل مع التحديات التي أفرزتها الأزمة السورية على الأمن القومي التركي، ولتؤكد الإدارة جديتها، اتصل ترامب بأردوغان ليبلغه دعمه إنشاء هذه المنطقة بعمق 30 ميلاً داخل الأراضي السورية، من دون أن يتضح فعلاً مصير مسلحي «وحدات حماية الشعب» وأسلحتهم، اللاجئين والنازحين، السيطرة ونظام الإدارة، القواعد الأميركية والغربية في شرق البلاد، وقبل ذلك كله الجدول الزمني للانسحاب الأميركي والأوروبي.
هذه «المنطقة الآمنة هي ما سيحاول الرئيس التركي إقناع نظيره الروسي بالموافقة عليها هذا الأسبوع؛ فأردوغان، الذي أغراه ما أخرجه الساحر الأميركي من قبعته، يسعى إلى إقناع موسكو بأن الجري وراء «الأرنب» مثمر، عوضاً عن المثابرة على ممارسة الضغوط على الطريدة الأميركية، أي الغزال، كي تسلم لثلاثي أستانا وتخرج من شرق سورية.