ثقافة وفن

حسن. م. يوسف: تمارس الكاتبة في «رؤى» نوعاً من الإغواء المخاتل على القارئ

| سارة سلامة

حملت الدكتورة ابتسام العيسى في روايتها «رؤى» هموم الوطن لتعالجها من خلال امرأة وتسلط الضوء على المجتمع والإنسان. وكل المفاصل الحياتية التي تعيشها سورية من قوة وضعف وما نتج عن حرب دمرت الكثير من البنى أهمها البنية الاجتماعية تفككها وتشرد الكثيرين. في واقع ترصده مقارنة ما بين الوضع قبل الحرب إلى ما وصلنا إليه اليوم.
فهي تعري رؤى في مختلف جوانبها وحيثياتها بكل أفكارها وجنونها وغيرتها وأنانيتها وحنانها، في مشهد يشبه شريط ذاكرة نمر به ونقرؤه ونعي حقيقة كل مرحلة تمر بها لأنها توثيق لمرحلة تاريخية شهدناها.

مدرسة الرواية الجديدة

وفي تقديمه للكتاب يقول الأديب حسن. م. يوسف: إن «جذور الرواية تمتد إلى ملاحم الأدبين الإغريقي والروماني القديمين، التي تتمحور حول أساطير الأبطال والآلهة مثل الإلياذة والأدويسة لهوميروس، إلا أن الرواية لم تصبح شكلاً ثابتاً من أشكال الأدب إلا في القرن الثامن عشر الميلادي. يرى بعض النقاد أن الروائي البريطاني دانيال ديفو هو أول من كتب الرواية، على الرغم من افتقار رواياته لحبكة موحدة. فكلتا روايتيه (روبنسون كرزوز) و(مول فلاندرز) ما هي، برأي النقاد، إلا سلسلة أحداث في حياة أشخاص عاديين، يتسمون بمستوى ذكاء أعلى من الناس العاديين.
غير أن النقاد العرب يرون أن المقامات التي كتبها باقتدار بديع الزمان الهمذاني (969- 1008م)، قبل أكثر من ألف عام، هي بداية فن القص والرواية في الأدب العربي. فقد ترك أدب المقامة أثراً جلياً على محاولة المويلحي الروائية (حديث عيسى بن هشام)، كما تجلى شكل المقامة الفني وأسلوبها في كتابات أدباء كثيرين.
إلا أن ولادة الرواية الفنية العربية لم تتحقق إلا في عام 1914 عندما أصدر محمد حسين هيكل روايته (زينب) التي جسد فيها واقع الريف المصري محاكيا البنية الفنية للرواية الغربية، لذا يمكن القول إن الرواية الفنية العربية الحديثة هي فن جديد علينا، احتفل قبل أربع سنوات بمرور قرن على ولادته.
عندما انتهيت من قراءة الفصل الأخير من رواية «رؤى» للكاتبة ابتسام العيسى قفز إلى ذاكرتي قول للكاتب المسرحي الإغريقي سوفوكليس الذي توفي عام 604 قبل الميلاد: «الأبناء هم المرساة التي تربط الأم إلى الحياة» فهذه الرواية التي تجري أغلبية أحداثها في العاصمة الإيطالية روما، هي تمجيد لأمومة المرأة السورية، التي تضحي بكل شيء في حياتها، من أجل أبنائها، بما في ذلك حبها وسعادتها.
وتمارس الكاتبة في مطلع الرواية نوعاً من الإغواء المخاتل على القارئ، إذ تقدم له بطلة روايتها المهندسة الزراعية (رؤى) كأم لستة أولاد أنجبتهم من زواج تقليدي انتهى إلى البرود، تصل إلى روما كمديرة لمكتب منظمة الأغذية والزراعة التابع للأمم المتحدة، وعقب وصولها إلى تلك البلاد، تطلق صوتها الداخلي وتخاطب نفسها قائلة: (تقدمي.. لا تنظري خلفك، فرصتك الكبيرة قد حانت، وجاء موعد تحقيق الحلم الذي حلمت به طويلاً).
والحق أن هذه العبارة المقتضبة المكتوبة بمقاطع قصيرة نزقة، ترسل للقارئ وعوداً مثيرة وغامضة.
لا تلتزم هذه الرواية خواص وتقنيات أي مدرسة معروفة في الكتابة الروائية، إلا أنها أقرب ما تكون إلى مدرسة الرواية الجديدة التي انتشرت في أوروبا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالكاتبة تعطي نفسها في بعض الأحيان حرية البوح كما لو أنها تكتب نصاً مفتوحاً، متصلاً منفصلاً، يحتمل الوقوف بمفرده، ويحتمل قراءات متعددة لا تفضي إلى تفسير نهائي للقصد كما هو مألوف في الروايات الواقعية».

وداع الياسمين

تقول ابتسام في مستهل روايتها: «وقفت رؤى في آخر الطابور الممتد أمام ميزان الأمتعة في المطار، لتأخذ دورها من أجل تسليم الحقائب والحصول على بطاقة الصعود إلى الطائرة «البوينغ».
دموعها السخية لم تزل تنهمر من عينيها بصمت يختزل تاريخ حزن عاشرته عمراً. نظرتها تأبى أنها أجبرت على السفر، أو ربما فارقت أحبة لا تطيق بعادهم، تخطو خطوة إلى الأمام ثم لا تلبث أن تتراجع خطوتين إلى الوراء، تتيح المجال لأخذ دورها، ثم تتقدم من جديد، كأن أحداً يدفعها بيده من الخلف، وصوتاً يأمرها بالسفر: «تقدمي لا تنظري خلفك، فرصتك الكبيرة قد حانت، وجاء موعد تحقيق الحلم الذي حلمت به طويلاً».
اندفعت بكليتها، وحسمت أمرها وقررت الخروج من قمقمها إلى العالم الواسع، متخطية حدود التردد في قراراتها، التي ما فتئ شريكها جاداً في إبطالها.
هي لحظات، تكمل رؤى بعدها إجراءات سفرها، وتقلع طائرتها، فيقتلع الخوف والتردد من قلبها، ثم يلمع فكرها، وتروح تسترجع بذاكرتها ما حصل معها تلك الليلة.
أخبرته عن صدور قرار سفرها منذ مدة، وأن عليها التنفيذ، والالتحاق بمكان عملها الجديد.
دارت حوارات بينهما مراراً، لم يمانعها لكنه لم يشجعها، واضعاً العصي في دولاب سفرها:
«افعلي ما يحلو لك، هذا قرارك، وأنت مسؤولة عنه، لكن لن تأخذي أحداً بمفرده من الأولاد، عليك تركهم هنا أو أخذهم معك جميعاً، متذرعاً، أنهم ليسوا في مأمن ما دامت ملتزمة بدوام يوميّ طويل، وآخر العنقود لم يبلغ فطامه بعد.
احتشد الدمع في مقلتيها، حاولت لملمة أشتاتها لتخبره، مطمئنة إياه، أنها لا ترغب في السفر من دون موافقته، فهي تشعر بالارتياح إن هو رضي عن سفرها، وإن لم يرسل أحداً من الأولاد معها، لكنها بيتت في نفسها قرار السفر، ولو كان له رأي آخر، ولم يخطر ببالها مطلقاً، أنه وبعد ليلة طويلة من المدّ والجذر في نقاشاتهما، وتجرع كل منهما ما سنح تجرعه من حنق الآخر، لن يستيقظ ليودعها ضاناً عليها بقبلة الوداع أو بتلويحة يده على باب منزل ضمهما لسنوات، مستقدمين خلالها ستة أولاد إلى هذا العالم.
لم تشأ رؤى أن تطلب منه مرافقتها إلى المطار، وترسم صورته كآخر مشهد في عينيها، من بلد احتضنها وأشعل في داخلها شعلة التمرد على واقع تحبه، رغم صده الأبواب في وجهها، ويقف الزمن في عينيها فتكتفي بتقبيل جباه عرائس يتنفسون نياماً».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن