قضايا وآراء

قمة موسكو.. بين استعادة أردوغان وإنزاله من أعلى الشجرة

| محمد نادر العمري

رغم أن اللغة الحميمية والعبارات الدبلوماسية المنمقة هي التي طغت على الجزء المكتوب من التصريح الصحفي للرئيسين فلاديمير بوتين ورجب أردوغان، إلا أن القمة الروسية التركية التي جمعتهما في موسكو لم تشهد أي خرقٍ يذكر ولم تتضمن مواقف حاسمة تتعلق بحسم مصير الشمال السوري بشقيه الشرقي والغربي، في ظل التصورات الضبابية التي مازالت تقدمها المؤسسات السياسية والعسكرية الأميركية حول انسحابها المفترض، والذي يعكس الصراع الدائر داخل هذه المؤسسات لاستثمار هذا القرار والالتفاف عليه وتوظيفه ضمن خدمة الأجندات الخارجية لكل من مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ووزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو، وهو ما أكده الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر اللـه في لقائه الأخير منذ أيام مع قناة الميادين.
أبرز ما يمكن ملاحظته في هذه القمة ومخرجات مؤتمرها الصحفي إلى جانب تناوب الرئيسين على استخدام مصطلح «الصديق العزيز» في إشارة كل منهما إلى الآخر عند وصفه أو مخاطبته، ثلاث نقاط أساسية:
النقطة الأولى: التركيز على أهمية مسار أستانا والتمسك به بوصفه ليس فقط المسار الأكثر فعالية لحل الأزمة السورية وفق تعبير بوتين فقط، بل لأن أستانا بما تمثله من استحقاق عسكري له انعكاسات سياسية تضمن لأضلاعه الثلاثة مصالحهم الجيوسياسية وتموضعهم وتأثيرهم في مستوى الخريطة السياسية بالمنطقة، رغم تناقض مصالحهم في سورية، مع احتمالية تطور هذا المسار بانضمام سورية والعراق إليه مستقبلاً في ظل المتغيرات المتسارعة وحاجة الضرورة التي قد تعيد صياغة العلاقات بناء على مخاطر تقسيمية أو مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية على سبيل الذكر وليس الحصر فقط.
النقطة الثانية: المتمثلة في خطة العمل الهادفة التي توصل إليها وزير الدفاع الروسي مع نظيره التركي «لتطهير إدلب من الإرهاب» وفق وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخاصة في ظل المستجد الأخطر والمتمثل بسيطرة جبهة النصرة الإرهابية على مساحات شاسعة من المناطق المتفق عليها لنزع السلاح ومحاربة الإرهاب في سوتشي، وهذا سيضع تركيا بين خيارين لا ثالث لهما حسب المعطيات والمؤشرات السياسية: التمسك بمشروعها المتضمن تعويم جبهة النصرة وجناحها السياسي أو المدني «حكومة الإنقاذ» وتقديمه كهيئة أو هيكل سياسي جديد على طاولة التفاوض بصفته ممثلاً وحيداً لكامل إدلب ومحيطها بعد إخراج باقي التنظيمات منها أو إقناعها بالرضوخ لهذا الهيكل للحفاظ على النفوذ التركي على هذه الرقعة الجغرافية بشكل مباشر، على حين يتمثل الخيار الثاني بأن تتوقف تركيا عن دعم التنظيمات الإرهابية وأن تقوم بحماية حدودها خشية ارتداد الإرهاب إليها وتفسح المجال للجيش العربي السوري وحلفائه للقيام بمهمة تطهيرها من «النصرة»، وخاصة أن الرئيس الروسي ألمح في المؤتمر الصحفي أن العمل على إدلب ومحيطها معزول إلى حد كبير عن مرحلة انتظار الانسحاب الأميركي المفترض من شرق الفرات.
النقطة الثالثة وهي الأهم: هي المبادرة البوتينية «لإنزال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أعلى شجرة طموحاته» عبر الدعوة الروسية لإحياء «اتفاقية أضنة» الموقعة بين دمشق وأنقرة في عام 1998، ويبدو أن هذه المبادرة وفاعليتها وجدت أصداء، إرغمت عليها، أنقرة نتيجة الواقعية السياسية التي فرضها محور دمشق والتقلب الأميركي، فخلال أقل من 24ساعة خرج كل من الرئيس التركي بعد عودته من موسكو ووزير خارجيته مولود أوغلو للحديث عن الاتفاقية ذاتها وضرورة عودتها للتداول «بحكم أنها تتيح لتركيا تحركاً عسكرياً محدوداً داخل الأراضي السورية» بالتزامن مع إشارته إلى وجود تواصل غير مباشر بين أنقرة ودمشق عبر القنوات الروسية والإيرانية، ليعود مجدداً لتأكيده على أن بلاده قادرة على إقامة المنطقة الآمنة واتخاذ الإجراءات الضرورية بمفردها، فما الذي دفع تركيا لتبني المبادرة الروسية؟ ولماذا هذا التناقض في التصريحات؟
1. يبدو أن أنقرة وجدت في المبادرة الروسية فرصة في حفظ ماء وجهها بعد سقف التهديدات التي أطلقتها مؤخراً من التحدي لأميركا ومواجهة القوى الكردية، ولاسيما أن إقامة المنطقة الآمنة غير ممكنة وتحتاج لموافقة مجلس الأمن بالدرجة الأولى وهذا لن تحصل عليه أنقرة في ظل وجود الفيتو الروسي الصيني المشترك، ويتطلب إنشاء مثل هذه المنطقة خطة حماية عسكرية كبيرة بشرياً وعتادياً لإقامة حظر طيران وهذا صعب واقعياً مع التفوق العسكري للجانب الروسي.
2. هذه المبادرة الروسية تعتبر وسيلة لعودة مسار التنسيق مع دمشق وتبريره بدواعي حماية الأمن القومي التركي من خطر الإرهاب الكردي وفق وصف أنقرة.
3. وضع خيارات بديلة تضمن لأنقرة خط عودة في حال لم يقدم الأميركي على الإيفاء بوعوده التي قدمها بإقامة المنطقة العازلة.
4. العودة لاتفاقية أضنة يعني أنه يحق لتركيا القيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي السورية بعمق لا يتجاوز 5 كم بشرطين الأول عجز الدولة السورية عن ضبط الحدود وإيقاف العمليات الإرهابية التي تنطلق من أراضيها وبعد تنسيق معها من الجانب التركي عبر الخط الساخن أو الممثلين الأمنيين وفق ما تضمنه بروتوكول الاتفاق، وهذا يعني أن العودة للاتفاق يحتم على تركيا القيام بما يلي:
• انسحاب كامل القوات التركية من الأراضي التي احتلتها في سورية بذريعة محاربة الإرهاب خلال الأزمة السورية والمتمركزة في إعزاز، الباب، الراعي، جرابلس، عفرين وعدم التهديد باحتلال مناطق جديدة.
• تسهيل عودة انتشار الجيش العربي السوري لاستلام مهامه على الحدود السورية التركية وإدارة المعابر الحدودية.
• إعادة تفعيل العلاقات السورية التركية، لأن تنفيذ الاتفاق يتطلب وجود خط ساخن وممثلين أمنيين لدى كل دولة من دون أن يعني ذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية دفعة واحدة.
• إغلاق تركيا حدودها وعدم تقديم الدعم للمجموعات المسلحة التابعة لها تحت أي ذريعة وأي صنف سواء كانت معتدلة أم إرهابية، لأن أحد أهم بنود الاتفاق المشترك لعام 1998: «عدم السماح بأي نشاط ينطلق من أراضي إحدى الدولتين يضر بأمن واستقرار الطرف الآخر»، وضمن هذا البند في حال استمرت تركيا بدعم المسلحين، يمكن للحكومة السورية القيام بالمعاملة بالمثل من دون تحمل تبعات قانونية دولية، أو التوجه للمنظمات والمحاكم الدولية المختصة لتقديم شكوى ضد تركيا، وهذا يتطلب أيضاً طرد الشخصيات الموجودة على الأراضي التركية والتي تعتبرها دمشق أنها تشكل خطراً على أمنها أو تطويق نشاطها من السلطات التركية.
5. العودة لاتفاق أضنة يعني إطلاق رصاصة الرحمة بحكم الإعدام على الحلم التركي بالمنطقة الآمنة أو قضم أراض سورية.
دمشق التي تلقفت مبادرة موسكو بإيجابية لا يمكن أن تقدم على ذلك، وأنا أجزم هنا، وجود تنسيق روسي سوري مسبق بناء على تصريحات روسية سابقة وخاصة من الرئيس الروسي الذي أشار في أكثر من مرة إلى أن روسيا تضمن اطلاع وموافقة الحكومة السورية على مبادراتها. فالإعلان الصادر عن دمشق بأنها مازالت ملتزمة باتفاق أضنة، قد يحمل مؤشراً إيجابياً تشترك به سورية وروسيا في إعادة أردوغان إلى الحياة الواقعية بعيداً عن طموحاته الخيالية، ليس محبة به بل لإغلاق كامل المنفذ أمام التكتيكات الأميركية وتطويق خياراتها وإجبارها على الانسحاب، مع العلم أن الأجندات الأميركية لم تتوقف وهي تتبدل في طروحاتها لإعادة خلط الأوراق مجدداً، وما المبادرة التي تحدثت عنها إلهام أحمد «رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سورية الديمقراطية» لصحيفة الرياض السعودية خلال زيارة وفد كردي للولايات المتحدة الأميركية منذ يومين عبر إقامة اتفاق سلام بين الكرد وتركيا، على غرار ما حصل في إقليم كردستان سابقاً، إلا صورة من تجليات السلوك الأميركي الذي يسعى لحرمان دمشق من استعادة الشمال السوري، بالتوازي مع ما يحمله المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري من خرائط ملونة خلال زيارته إلى أنقرة خلال الأيام القادمة.
الأمر الذي يضع أردوغان بين مفترق طرق: إما الإصرار على الاستمرار في سياسة الخصومة والعداوة مع دمشق بأدوات وتحالفات جديدة وضمن هامش محدود من السلوكيات بإشراف الولايات المتحدة الأميركية، وهذا سيترتب عليه ردة فعل سورية وروسية وإيرانية في إدلب، الواقع الذي سيفرض على حزب العدالة والتنمية المقبل على انتخابات محلية ضغطاً ومخاطر ارتداد الإرهاب إلى بلاده، فضلاَ عن توقف بعض المشاريع الاقتصادية الروسية في تركيا، أو القبول بطوق نجاة أضنة للنزول من أعلى الشجرة كما فعل سابقاً عدد من نظرائه الرؤساء وفي مقدمهم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما 2013.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن