قضايا وآراء

سور أميركا العظيم

| فارس الجيرودي

بينما كانت أنظار العالم وتبعاً للرسائل الإعلامية التي تبثها كبرى وكالات الأنباء الغربية تتجه نحو فنزويلا وأزمتها، تصاعدت الأحداث داخل الولايات المتحدة نفسها وكادت تنفجر، فآلاف الطائرات كانت تنتظر دورها للإقلاع بعد أن أُلغيت رحلاتها بسبب قلة الموظفين، الرئيس الأميركي دونالد ترامب هدد بإعلان حالة الطوارئ، إذا لم يسمح له بإلقاء خطاب حالة الاتحاد أمام مجلس النواب، وبعض الولايات هددت بإعلان حالة طوارئ ضد الحكومة الفدرالية، فيما تم توقيف أقرب معاوني ترامب ليلة الخميس الجمعة في الـ24-25 كانون الثاني الماضي في واشنطن، حيث تصرف رجال الـ«إف بي آي» معه مثل مجرم خطر، حاصروا البيت وكانوا مسلحين كأن المطلوب إرهابيٌ يهدد بتفجير نفسه، ثم أخذوه للسجن والتهمة جاهزة: أنها «العلاقة مع روسيا» مجدداً.
عقب هذا التصعيد غير المسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، قرر ترامب تهدئة التوتر، ووافق على إنهاء أطول إغلاق حكومي في التاريخ الأميركي، ولكنه بالمقابل قام بما يشبه عملية ربط نزاعٍ مع خصومه، وذلك عبر تصريحٍ للقائم بأعمال كبير موظفي البيت الأبيض ميك مولفاني أوضح فيه أن ترامب مستعد لإغلاق حكومي آخر في حال رفض الكونغرس التعاون معه لتنفيذ وعده الانتخابي ببناء جدار فاصل مع المكسيك، يحمي الولايات المتحدة من الهجرة غير الشرعية.
وتعود بدايات أزمة ما يعرف بالإغلاق الحكومي إلى الطلب الذي تقدم به ترامب لتخصيص 5.7 مليارات دولار في الميزانية الجديدة للعام 2019 لتمويل بناء جدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وهو ما رفضه الديمقراطيون الذين يسيطرون على مجلس النواب، لكن ترامب أصر على طلبه، واستخدم للضغط على مجلس النواب حق الفيتو الذي بمقتضاه يستطيع رفض أي تشريع للكونغرس، ما تسبب بوقف تمويل المؤسسات الحكومية وتوقف دفع الرواتب، وبالتالي إغلاق جزء مهم من المؤسسات الأميركية.
في الواقع ليس الجدار الحدودي مع المكسيك سوى رأس قمة جبل الجليد في الصراع الذي يخوضه ترامب مع خصومه المتحكمين فيما صار يعرف بـ«مؤسسات الدولة الأميركية العميقة»، فما ينوي ترامب بناءه على الحدود الجنوبية يرمز لسياسات العزلة عن مشاكل العالم التي بشر بها داعميه خلال حملته الانتخابية، وهو المشروع المناقض تماماً للنظام الذي حاولت الولايات المتحدة أن تبنيه حول العالم إثر انهيار جدار برلين عام 1989، والذي كان يسمى بـ«العولمة»، للمفارقة أصبح رئيس الولايات المتحدة هو من يسعى اليوم لبناء الجدران، لذلك يتهم أعداء ترامب من النخب السياسية في واشنطن، الرئيسَ بتدمير كل ما قامت به الولايات المتحدة حول العالم خلال العقود الثلاثة الماضية.
فالمواجهة الداخلية الأميركية بين ترامب وخصومه تبدأ من الجدار وتمتد إلى سحب القوات العسكرية الأميركية من أماكن انتشارها حول العالم، وتصل إلى سياسات فرض الحمائية الضريبية والتراجع عن مبادئ التجارة الحرة، فلا يختصر جدار المكسيك الصراع الداخلي الأميركي الشرس، وإن كان يرمز له.
بالنسبة لترامب تمثل قضية الجدار ركناً أساسياً سيبني عليه حملته الانتخابية الهادفة للتجديد له لولاية رئاسية ثانية، وذلك في مواجهة الهجوم الإعلامي الشرس الذي تشنه عليه كبرى وسائل الإعلام الأميركية، والتي تتبع كلها تقريباً لخصومه، فترامب الذي أطلق لقب «أعداء الشعب» على وسائل الإعلام، يبدو بأمس الحاجة ليثبت لناخبيه أنه أوفى بما قطعه من وعود انتخابية خلال حملته الأولى، وهو سبق له أن لعب على وتر مخاوف الأكثرية البيضاء الانجلوساكسونية البروتستانتينة أو ما يسمى بأميركا بـ«الواسب»، من ازدياد أعداد الملونين والكاثوليك بسبب الهجرة غير الشرعية القادمة من دول أميركا اللاتينية والوسطى، حيث يعتبر ترامب الجدار الحل السحري لمواجهة هذا الخطر.
كما انتقد الرجل بصراحة ولأول مرة بالنسبة لرئيس أميركي، سياسة الحروب التي شنتها بلاده منذ زمن جورج بوش الابن، والتي كلفت أكثر من 7 تريليونات دولار، معتبراً أن نتائجها الاقتصادية الكارثية على المواطن الأميركي هي مبرر أكثر من كافٍ، للتراجع عنها ويقول ترامب: «كلفتنا حرب العراق آلاف المليارات، لكنني اضطررت في النهاية لزيارة العراق سراً، بطائرة مطفأة الأضواء، فماذا جنينا من هذه الحرب»؟
المثير أكثر في مواجهة ترامب مع النخب السياسية التي تعاديه في واشنطن، هو أن أعداءه يستخدمون ضده إلى جانب الإعلام، أجهزة الـ«إف بي آي» والـ«سي أي ايه»، وهي أجهزة غير منتخبة من الناس، ويجب أن تخضع في نظام رئاسي كالنظام الأميركي، إلى سلطة الرئيس الذي اختارته الأكثرية.
إن ما يحدث في أميركا اليوم، يذكرنا مرةً أخرى أن «الديمقراطية الأميركية» ليست سوى إحدى أكبر الأكاذيب في عصرنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن