قضايا وآراء

معاهدة الصواريخ والصراع على مناطق النفوذ

| مصطفى محمود النعسان

أعلنت واشنطن يوم السبت الماضي انسحابها من معاهدة الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى مع روسيا التي تم توقيعها عام ١٩٨٧ بشأن قيام الطرفين بتدمير ترسانتهما من الصواريخ المذكورة.
والحق أن روسيا حاولت ما بوسعها رغم اعترافها أن المعاهدة لها إطار ضيق حاولت الاحتفاظ بها ولم ترحب بإنهائها دون خطط جديدة ووصفت القرار الأميركي بأنه خطر وإعلان لنيات الدخول في سباق التسلح.
موضوع الانسحاب من المعاهدة كان مثار احتدام وتهديد من الجانب الروسي حيث أكد الرئيس فلاديمير بوتين في ٢٥ تشرين الأول الماضي أن موسكو ستضطر للرد بالمثل في حال نشر واشنطن صواريخها في أوروبا محذراً من خروج الولايات المتحدة من المعاهدة ومهدداً الدول الأوروبية التي ستسمح بنشر هذه الصواريخ على أراضيها إذا انسحبت واشنطن من المعاهدة أنها سوف تعرض نفسها لخطر ضربة مضادة محتمله من الجانب الروسي.
والحق أيضاً أنه ما عبر عن الحقيقة في موضوع الانسحاب الأميركي هو ما نشره موقع «نيو ايسترن أوت لوك» أن إعلان الانسحاب يجب أن يقرأ ليس من حيث ادعاؤه الخرق الخيالي للمعاهدة من الروس ولكن في الأساس كذريعة لإعادة واشنطن بناء ترسانتها النووية ما يشير إلا أن الولايات المتحدة تعلن حقبة جديدة من سباق التسلح في العالم عبر خرقها المعاهدة وإلقاء اللوم بشكل مباشر على روسيا لتبرير توسعاتها العسكرية.
لقد جاءت أحدث تجليات حلم الهيمنة الأميركية عبر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وأوراسيا ويس ميتشل الذي كشف عن الأسباب الحقيقية للعقوبات الحالية التي تمارسها واشنطن بحق روسيا مؤكداً أنها غير مرتبطة بمزاعم التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية أو قضية «سكريبال» وذلك خلال شهادته في مجلس الشيوخ الأميركي في آب الماضي حيث قدم ميتشل بياناً صريحاً حول الإستراتيجية الجيوسياسية الأميركية الحقيقية تجاه روسيا قائلاً: خلافاً للافتراضات المأمولة للإدارات السابقة فإن روسيا والصين هما من المنافسين الجديين الذين يقومون ببناء المواد الأيديولوجية الكافية للاعتراض على سيادة الولايات المتحدة وقيادتها في القرن الحادي والعشرين ولا يزال من أهم مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة هو منع سيطرة القوى المعادية (روسيا والصين) على الأراضي الأوروبية الآسيوية ولذلك إن من جملة ما اشترطت واشنطن أن تشمله المعاهدة التي طالبت بتعديلها انضمام الصين إليها بسبب مخاوفها من برنامج بكين الصاروخي، وهنا تساءل مندوب روسيا لدى الاتحاد الأوروبي بلاديمير تشيجوف: لماذا تتخوف الولايات المتحدة من ذلك أكثر منا؟ مشيراً إلى أن روسيا لها حدود برية طويلة مع الصين بخلاف الولايات المتحدة.
في الخامس عشر من كانون الأول الماضي أعلن في موسكو أن وزير الدفاع سيرغي شويغو أرسل مذكرتين إلى وزير الدفاع الأميركي حينها، جيمس ماتيس، لكن رداً رسمياً لم يتبعهما ما يدل على عدم الرغبة في إجراء حوار منطقي مع روسيا وإحجام الجانب الأميركي عن الحوار العقلاني والمهني مع روسيا من أجل حل القضايا الموضوعية للأمن الإقليمي والعالمي.
تحججت واشنطن بعدم الالتزام الروسي الصحيح بالمعاهدة ووجدت في هذه الذريعة الباطلة سبباً لها للانسحاب من المعاهدة ولكن الحقيقة أن هذا الانسحاب لا يمكن فهمه إلا في إطار العلاقة المتوترة بين واشنطن وموسكو والصراع على مناطق النفوذ ومحاولة واشنطن التمدد نحو التخوم الروسية وإيجاد موطئ قدم لها هناك، ولقد كشف وزير الخارجية سيرغي لافروف في السابع عشر من تشرين الثاني الماضي أن واشنطن تقوم بمحاولات حثيثة لتحويل شبه جزيرة البلقان إلى قاعدة ضد روسيا معبراً عن اعتقاده أن الانقلاب المسلح في كييف (عاصمة أوكرانيا) في شباط عام ٢٠١٤ الذي نظمته ودعمته واشنطن، أصبح من إحدى نتائج السياسة الأميركية المعادية لروسيا.
لا يزال موضوع أوكرانيا مثار خلاف كبير بين الغرب عامة وأميركا خاصة من جهة وروسيا من جهة ثانية حيث أكد لافروف أن على الغرب تحذير كييف من عواقب اللعب بالنار وذلك على خلفية انتهاك ثلاث سفن حرب أوكرانية المياه الروسية ورفضها التوقف عند محاولة عبورها مضيق كيرتش.
موسكو أكدت أنها سترد في حال إقامة قاعدة عسكرية أميركية في أوكرانيا ولكن المفاجئ أن الرئيس الأوكراني أكد في الرابع والعشرين من الشهر الماضي أن بلاده تحتاج إلى السلام مع روسيا وأن السكان أنهكوا من الحرب الدائرة في جنوبي أوكرانيا وقال: «بالتأكيد نحتاج إلى السلام مع روسيا وإن كان بارداً»، ويأتي هذا التحول الكبير في مواقف كييف نصراً لموسكو على جبهة أوكرانيا.
تتعدد جبهات الصراع وإن كان أقل حدة أحياناً في بعض الأماكن وأشدها أحياناً أخرى في غيرها من الأماكن، ففي إفريقيا نجحت الدبلوماسية الروسية في إنشاء منتدى روسيا إفريقيا الذي افتتح أعماله في موسكو في ٢٢ تشرين الأول الماضي حيث تسعى الدبلوماسية الروسية إلى ممارسة سياسة متتابعة من أجل تعميق العلاقات الروسية الإفريقية ولاسيما أنها تقوم بذلك وفق القانون الدولي والمساواة في الحقوق واحترام مصالح الدول وأكد وزير الخارجية الروسي أن إفريقيا اليوم تعد شريكاً مهماً لروسيا ومشاركاً في تشكيل هيكلية العالم المتعدد المراكز.
لقد استطاعت موسكو أن تحقق نجاحاً آخر تمثل في الاختراق الأوروبي وهو ما يمثله خط أنابيب غاز «نور ستريم ٢» حيث سينقل مع خط رقم ١ ما يمثل ربع حاجة الاتحاد الأوروبي من الغاز، وهذا ما أثار حنق واشنطن وغضبها واعتبر وزير الخارجية مايك بومبيو أنه يقوض بحسب زعمه الأمن الأوروبي.
كما تعد بوادر الصلح ومحاولة حل الخلاف بشأن جزر الكوريل المتنازع عليها بين موسكو وطوكيو حليفه الولايات المتحدة، نصراً آخراً للدبلوماسية الروسية ضد نفوذ واشنطن.
كما أن موسكو حققت نجاحاً تمثل في إقامة علاقات أفضل مع الهند وتركيا وبيعهما صواريخ «إس٤٠٠» وكذلك للصين حيث شكلت مع الأخيرة جبهة دبلوماسية وعسكرية ضد محاولة التدخل الأميركي في شؤون الدول ولاسيما سورية، ولم يسع ترامب إلا إلى الاعتراف بالنفوذ القوي لروسيا في سورية.
إن الحقيقة الساطعة أن روسيا أصبحت تعوق الولايات المتحدة وحلفاءها من اتباع سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة ومحاولة تغيير أنظمتها السياسية والاقتصادية وفقاً لمصالح واشنطن وهذا ما أكده كلام الرئيس بشار الأسد للجنود في الغوطة الشرقية في آذار الماضي حيث قال: «أنتم اليوم تخوضون معركة العالم ضد الإرهاب وليس معركة سورية فقط وكل رصاصة أطلقتموها لقتل إرهابي كنتم تغيرون بها ميزان العالم وكل سائق دبابة كان يتقدم متراً للأمام كان يغير الخريطة السياسية للعالم».
كلام الرئيس الأسد يعبر عن كبد الحقيقة فيما يتصل بالدور الروسي على الصعيد العالمي وإعادة تشكيل عالم ثنائي أو متعدد الأقطاب في مواجهة الهيمنة الأميركية السابقة والتسلط الأميركي والانفراد بالقرار الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن