ثقافة وفن

تخلوا عن مهامهم الأساسية لما ليس لهم … تحالف الديني والسياسي أضرَّ بالبنية الاجتماعية … مفكرون لم يستطيعوا فعل شيء لأنهم وقعوا تحت سطوة المصالح

| إسماعيل مروة

ليس الغرض انتقاد الدين، فهو عقيدة، ولكل عقيدة أتباعها، وهي على صواب حتمي، خاصة عندما تكون العقيدة- الشريعة- أو المذهب والطائفة قضية فردية، لا تفرض نفسها على الآخر، سواء كان أكثرية أم أقلية، أي على رأي المفكرين، ومنهم بين العرب أدونيس، الذي يقف من الدين موقفاً إيجابياً، ولا يصطدم معه إذا كان إيماناً فردياً، أو شأناً فردياً، ولكن عندما يتحول إلى سوط يعمل على تدجين المجتمع، وعلى تحويله إلى طيف واحد، فعندها يصبح مرفوضاً، ومحارباً وسلطة!

المشكلة في الحكم

تمتع الفكر الإنساني الإسلامي منذ العصور الأولى بالمزج ما بين الدين والسلطة، وقد بدأ ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ادعاء الأحقية في الحكم والسلطة، ولم يكن الخلاف حول الآراء والأفكار والدعوة الإسلامية، ودخلت السياسة والحكم بشكل مباشر في الدين، وليس صحيحاً ما يدعيه بعضهم من أن الفكر السياسي الديني المعاصر هو من دعا إلى الدولة الدينية الإسلامية، وصار من العصور الأولى كل حاكم يدعي الولاية من الله! وكم سمعنا من فتاوى، وكم قرأنا من شعر يحاول أن يجعل هذا الخليفة أو ذاك، وهو حاكم دنيوي، حاكماً بأمر الله!
والأسماء التي اختاروها تحمل الدلالة نفسها! ففي العصر الأموي طلبت البيعة لخليفة الله على الأرض، الخليفة!
وفي العصر العباسي اتبع الأسلوب نفسه، والخلفاء حملوا صفات تلتصق بالألوهة، فهذا معتصم بالله، وذاك متوكل على الله، وثالث مستعصم بالله، في الوقت الذي تذكر كتب كثيرة أن عدداً منهم لم يكن على علاقة وفاقية مع الدين، ولكن السلطة الدينية رأت هذا المزج ما بين الدين والسلطة السياسية، وقد استمرأت السلطات السياسية العربية الموضوع، وركبت الشعوب العربية باسم الدين والله، وأوقفت عجلة التطور والتقدم، مكتفية بمسوغات الحكم التي أرادتها نقلاً لا عقلاً!
والمشكلة الكبرى تمثلت في لعبة التذاكي ما بين السلطتين السياسية والدينية، فلكل واحدة مصالحها الدنيوية التي تبحث عنها وعن تحقيقها، وكل سلطة تتربص بالأخرى للانقضاض عليها، فباسم الدين انقلبت سلطة على أخرى، وباسم الدين سمل الابن عيني والده الخليفة ليحكم مكانه! ووجد من يفتي له بمصلحة الأمة فيما قام بفعله بأبيه! وكل ما عاشته الأمة العربية خلال قرون متطاولة كان يتم وفق هذا التمازج بين السلطتين السياسية والدينية..! أليس هذا الاتفاق هو الذي جعل التتار والمغول حكاماً للعرب؟ أليس هذا الخلط هو من جعل المماليك حكاماً علينا؟ أليس هو من جعل الأتراك القبائل والأفراد الذين لا يملكون تاريخاً يحكمون العرب أربعة قرون؟ بل أليس هذا هو الذي جعل العرب، وإلى اليوم يحنّون للعثمانيين؟
لولا هذه النزعة الدينية للسلطة الدينية هل كان بإمكان الأتراك أن يحكمونا، وأن نبني لهم المقابر والمزارات؟ ولا أتحدث عبثاً بل من تجربة ومعايشة، ففي كثير من أوساطنا هناك من لا يقبل انتقاداً للعثمانيين بالجملة، ويرى أنها خلافة إسلامية! وهل يفسّر هذا إلا على أنه نزوع من السلطة الدينية للانقلاب على السلطة السياسية والوصول إلى سدة الحكم، إلى سدة الدنيا! وسنأتي على الأمثلة والتفصيلات التي نعيشها، أو التي عاشتها الأمة وقرأناها، ولا مجال لردها بأي حجة كانت.

الفقهاء والسلطة والناس

من منا لم يقرأ أو يسمع أحاديث عن العذابات التي وقعت على الأئمة والفقهاء، والسجن الذي وقع على بعضهم، والضرب والإهانة على بعضهم، وما حصل مع ابن حنبل والشافعي لا يمكن رده كما يرده كثيرون إلى خلافات بسيطة، أو إلى علاقة الشافعي العلمية بالإمام جعفر صادق رضوان الله عليهم، ولكنه يرد إلى ذلك الصراع القوي المحتدم بين أجنحة السلطة الدينية للسيطرة على الحاكم، ومن ثم الوصول إلى الحكم والدنيا، وعندما وجدوا في هؤلاء الفقهاء الذين أخلصوا للعلم، ولم ينساقوا للسلطان، ووقفوا مع العلم وطلابه نالهم ما نالهم من أذى الحاكم نفسه ذلك من تلقاء نفسه، وإنما فعله بتسويغ من السلطة الدينية، ولم يجرؤ على ذلك إلا لأن فقهاء السلطة الذين انقلبوا عليه فيما بعد هم من أوهموه بأن دعائم حكمه لن تكون بوجود هؤلاء أحراراً طلقاء! وهذا ما فعلوه ليس مع الفقهاء وحدهم بل مع المفكرين الحقيقيين والأدباء والشعراء، وكان لهذه الطائفة من الناس حكم جاهز وهو الزندقة! فكم من أديب أو شاعر أو مشروع مفكر انتهى بالقتل بتهمة الزندقة، أو سجن وعذب بتهم لا علاقة لها بالمنطق، من ابن المقفع إلى ابن عربي وابن رشد والسهروردي والحلاج وسواهم، وقد نالت هذه الدعوات أبا العلاء المعري، فلم ينله عقاب السلطة، ولكن غضبهم ناله حتى في تمثاله الذي يتحدى الزمن في معرة النعمان، ولو دمر القبر ودرس، ودمر النصب، فإن ما تركه أبو العلاء من كتابات وأشعار سيبقيه شاهداً على الزمن، وعلى التخلف الفكري الذي قاوم العقل، وألغى تفكيره لمصلحة تحالف مشبوه بين السلطتين السياسية والدينية.

إجهاض مشروعات الدولة

مع انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بدأت علامات الدولة، لكن الصراعات السلطوية التي لبست لبوساً دينياً، واعتمدت النصوص، واختلقت النصوص، منعت قيام دولة عربية يكون الإسلام ودعوته من أسسها وأركانها، وتحولت الجهود إلى دولة دينية، وعندما نقرأ السيرة نجد أن المنافقين وحديثي الإسلامي كانوا وراء هذه الدعوات والفتن ابتداء من قتل الأئمة وصولاً إلى خلق صورة إسلامية سلطوية جديدة وغير معهودة!
وعند كل مفصل كانت هذه الدعوات تجهض قيام دولة بمعنى الدولة، واستمر ذلك حتى عصر النهضة، وعندما رحل الأتراك احتدم الخلاف والتخوين العقيدي بين من يرغب باستمرار الأتراك وبين من يريد تأسيس دولة، وبغض النظر عن الفروق الفردية بين حاكم وآخر منهم فإننا لم نجد دعاة دولة بين العرب، والذين حاولوا فكرياً تم اغتيالهم كما اغتيل الكواكبي في القاهرة، أو اغتيل سياسياً كما اغتيل عبد الرحمن الشهبندر، وتمّ التسهيل للتبعية للغرب، وفي هذه المرحلة وجدنا دعوات تتحدث عن القربى العقيدية الدينية بين الغرب والمسيحيين العرب، لكن صوت العقل والانتماء كان أعلى، ومع ذلك لا نزال نعيش ارتدادات هذه النظرة في بعض المناطق العربية.
ومع انتشار حركة الإخوان المسلمين في مصر، وما أحدثته من بلبلة في الحياة السياسية المصرية، قامت ثورة الضباط الأحرار، وبغض النظر عن أي شيء، فإن حكام مصر الذين انقلبت عليهم الثورة ليسوا من المصريين، وهم من بقايا الاحتلال العثماني والألباني الذي يرى أن الناس مجرد خدم وعبيد وأملاك، تصوروا أن ألبانيا تحكم العالم العربي باسم الإسلام، والعالم العربي يمكن أن يتمثل في مصر في ذلك الوقت، لأنها التي كانت تعيش شبه حكم ذاتي! وبقي الألبان يحكمون مصر عقوداً طويلة من دون أن تكترث المؤسسة الدينية، مع ثورة الضباط الأحرار عمل الإخوان المسلمون على الانقضاض على الحكم، مدعين أنهم من أوصل الضباط الأحرار، ومدعين أن جمال عبد الناصر كان واحداً من الجماعة، ومن دون دخول في التفاصيل والمماحكات، فإذا كان عبد الناصر صاحب مشروع في الدولة، فإن الإخوان المسلمين هم من عمل على إجهاض هذا المشروع في مهده بمحاولاتهم العديدة للوصول إلى سدة الحكم، وإن كان عبد الناصر قد اعتقل منهم وقتل، فقد خسرت مصر طاقاتها وقدراتها في صراع للوصول إلى السلطة! وفيما بعد يعرف الجميع ما حصل مع السادات الذي أعطاهم دوراً كبيراً في مصر، وجعلهم جماعة شبه مسموح بها، فكانت النتيجة قتله على أيديهم، وهم أوجدوا المسوغات الإيمانية للاعتداء عليه وقتله، وبعض من شارك في عملية الاغتيال يمسح لحيته ويتحدث بفخر، وكأن التفويض الإلهي بيده!
وفي سورية عاش جيلنا حوادث الثمانينيات من القرن العشرين، ومهما تعددت الأقاويل والتفسيرات، فإن الصراع كان على أشده من أجل السلطة، بعد أن بدأت بوادر الدولة بالتخلق، ولولا ما حدث في الثمانينيات لكان من الممكن للدولة أن تأخذ وجهة حداثية علمانية مختلفة، خاصة إذا ما أدركنا أن الكثيرين من الناس يتحكم بهم الانتماء الديني والعاطفي والمذهبي والعشائري، أكثر من عقد خسرت سورية وهي تبحث عن دولتها الحديثة التي كان من المفترض أن تكون، ولنقرأ النتائج المباشرة لما حدث في سورية في الثمانينيات من القرن العشرين، فسورية كانت دولة أقرب إلى العلمانية، وبعد الأحداث تلك انتشرت المعاهد الشرعية، وعادت المدارس المسيحية، وتكاثرت المدارس الدينية بشكل كبير، وتحول كل مسجد إلى مدرسة شرعية، وتعمقت النظرة الدينية المجتمعية القائمة على زعم تحصين الذات في مواجهة الأخطار، وشهدت سورية تحول الكثيرين عن اختصاصاتهم العلمية لمصلحة التعليم الديني والخطابة وما شابه ذلك، وجميعنا يعرف عدداً من هؤلاء أطباء ومهندسين طحنوا في دوامة البحث عن الذات والهوية! بل إن المتابع يجد انحساراً فكرياً من المسرح إلى السينما والمهرجانات التي كانت تغطي أوقات سورية!
وأطرف ما في الموضوع أن مناطق سورية تميزت بالانفتاح اندارت فجأة إلى ذاتها وهويتها، وصرت في كل يوم تجد مسجداً أو مزاراً أو مقاماً، وانتشر الدجل الذي أفسد المجتمع السوري وأبعده عن العقل والعلم!
حبذا لو يجرؤ الباحثون على إجراء مسح على الردة الدينية والطائفية والمذهبية منذ تلك الأحداث المأساوية وحتى اليوم، وإن فعلوا فإننا سنكتشف مقدار الكارثة، وهول ما حدث في سورية حتى حصلت الكارثة والحرب عليها 2011، وقد عرف الجميع أن المشكلة الحقيقية كانت مع أصحاب التوجه الديني، ومع الإخوان في الخارج الذين كانوا يساومون من الخارج على اقتسام السلطة، وحين لم يحدث ما أرادوا كانت الحرب المستعرة التي لم يدفع أي منهم نتيجتها، ولم يذهب ابنه فداء لآرائه، وبقيت الحرب تلتهم البسطاء وأرزاقهم وأسرهم، حتى أتت على جزء كبير من سورية.. أقول هذا، لأن ما نشهده في المراحل الأخيرة من الحرب يمثل تمدداً خطيراً للتيار الديني الراغب في السلطة، وكأننا لم نصل إلى قناعات بعد كل ما حصل في سورية!
فهل ندرك خطورة تمدد المصلحيين من أصحاب التوجه الديني بأغراضه المعروفة لكل متابع وقارئ؟

السلطة غاية والشهود

المشكلة ليست في الصراع على السلطة بحد ذاته، بل المعضلة الحقيقية في ذلك الاتفاق الضمني بين السلطتين السياسية والدينية، الذي قد يبدو للناظر أنه ضروري، وأن إحدى السلطتين مجبرة على تنفيذ مثل هذا الاتفاق، ولكن الحقيقة يعرفها الجميع، وأنا عندما أتحدث فيها لا أذيع سراً، وإنما أظهر للعلن ما يتم تداوله، ويعرفه القاصي والداني، ويعرفه الرضيع، وهو إن تمثل في التجربة اللبنانية بوضوح تام، إلا أنه موجود في كل البلدان العربية، وهو تحكم المرجعيات الدينية بأصحاب القرار، ووصولهم إلى فرض شخصيات بأعيانها تمثل هذا الجانب أو ذاك! أفهم أن يقوم أحد رجال الدين بالدفاع عن أحدهم أو دعمه، لكن الذي يجب التوقف عنده باحتراز هو التفاهم اللاحق، فهذا الذي يدعمه رجل الدين لا يختلف عمن يدعمه رجل السياسة أو رجل الأمن، فهو سيكون طوع بنان الجهة الدينية الداعمة له، وينفذ توصياتها سواء كانت صالحة أم غير صالحة، خاصة إذا كان التخصص بعيداً عن اهتمام رجل الدين، ولكن أصبح لرجال الدين حصة.. التغلغل في الحياة السياسية والتنفيذية هو الخطر، ولم نتعلم أن أحداث ثمانينيات القرن العشرين أفرزت لنا كثيرين من أصحاب التوجهات الدينية في المناصب العليا التنفيذية والحزبية، فما بالنا اليوم، ونحن نلمس هذا التغلغل الذي يفسد الحياة السياسية، إضافة لما يحمله هذا من سوء في الأداء، لأن أحدهم يعتمد على مرجعية يحرص الجميع على مراعاتها وعدم إغضابها!
والحرب على سورية أفرزت لنا بلا مبالغة عشرات من الذين كانت المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية على السواء وراءهم، ووراء اختيارهم ودعمهم، وهؤلاء أحدثوا كوارث بسورية، وظهروا بلبوسات دينية وطائفية ومذهبية مؤذية وقذرة بكل المقاييس!
أليس حرياً بنا بعد الحرب أن نطلب من رجال الدين وعلماء الدين أن يستقلوا بمؤسساتهم الدينية بعيداً عن الحكومة والمواقع التنفيذية؟ إذا كان الوقت لم يحن فلنستعد لجولة وجولات أخرى من الدم والدمار!

وانتماء وجهل وتعصب

لن أذكرهم بالاسم، لكنهم معروفون، عملت مؤسسة دينية أو شخصية دينية على توليها أمراً ما، لتمثيل هذه الجهة أو تلك، لكن هذه الشخصية لا علاقة لها بمن تمثلهم، وهي أجهل ما يكون بمن يمثلونهم، وأكثر الناس شكوى منهم، ومن ظلمهم من يمثلونهم! فمن الذي أخبر المرجعية أن هذه الشخصية أو تلك هي المناسبة؟ إذا كان لابد من هذا التقسيم الجائر والظالم، فلا بأس، ولكن ليتم اعتماد المعايير المناسبة، لنختار من هذه الشريحة الأكثر كفاءة، بعيداً عن حسابات المرجعية الدينية، ليكون هذا المسؤول وطنياً في انتمائه، وليس منتمياً إلى مصالحه ومصالح طبقة رجال الدين! وخاصة أن هؤلاء الذين يختارهم رجال الدين يحملون علامة الدين وحسب، ولكنهم أجهل ما يكون بالأخلاق والمبادئ التي ينادي بها هذا الدين أو ذاك!

لا بد من العملية الجراحية

منذ عقود والنداء بفصل الدين عن الدولة، ولكن المصائب التي تنهال على بلداننا العربية لم تجعل أصحاب القرار قادرين على اتخاذ مثل هذا القرار الصائب، بل نجد من المثقفين من يتحدث عن الحصص وضرورة تكريس هذه الحالة التقاسمية، في لبنان بما يناسب المسيحيين وفي كل البلدان العربية بما يناسب الفكر السائد! لابد من فصل الدين عن الدولة، وأن يكون لرجال الدين وعلمائهم صوامعهم وأماكنهم للتعبد وبث الأخلاق الكريمة بين الناس، وليتركوا لأهل السياسة معالجة شؤون البلدان، وتحديد المناهج والسياسات والإعلام والاقتصاد، ووزارات الأوقاف في البلدان العربية كافة- وهي الأكثر غنى- لينحصر عملها في الأوقاف والأملاك التي أوقفها الناس عبر الزمن لإدارتها والصرف منها على المساجد والمدارس الشرعية والفقراء بعيداً عن التوسل والتسول، واسم الأوقاف يدل على مهامها، وهذا ليس اختراعاً مني، أما أن تترك هذه الوزارة الفقراء والمساكين، وتتحول إلى سلطة فكرية على رقاب الناس فهذا أمر مرفوض، بل في وضع مثل وضع سورية على الدولة أن تحمل وزارة الأوقاف بأملاكها وأموالها، والكنائس بأوقافها وأموالها على خدمة الشهداء والمصابين من كل طرف من الأطراف، لأن الدولة والحكومة لا تملكان القدرة على فعل ما يفعله الدينّ أم إن الدين محصور في البحث عن المجد والمنصب والمكسب؟
لابد من إعادة النظر في مهمة المؤسسة الدينية المجتمعية لا السياسية، وإلا فستبقى الدوامة وسنبقى نختم أوراق التسول من الأوقاف ليطلب من المصلين التبرع لبناء مسجد أو مدرسة شرعية أو للفقراء!
ونجلد المواطن ونوبخه: عليك أن تتبرع!
هل درى هؤلاء أن كثيراً ممن يطلبون منهم لا يملكون طعاماً ولا ثمن ربطة خبز، ناهيك عن الحاجات والفواتير الأخرى الكثيرة والمتراكمة.

ليس إبعاداً

ليس المقصود بهذا الحديث إبعاد المؤسسة الدينية عن التفاعل السياسي والمجتمعي، فهي بكوادرها ومكوناتها جزء مهم من المجتمع ولكن المراد أن تكون صاحبة فعل في ميدانها الذي أراده الخالق من أجل الإنسان وخيره، وليس من أجل الذات، ومصالحها ومنافعها، وأن تكون هذه المؤسسة بما تملك سلاحاً للروح وانتعاشها للوصول إلى مجتمع متعاضد متكافل، يقف في وجه الظلم، وليس أقدر من المؤسسة الدينية للوقوف في وجه الظلم، لكنها لن تقدر على فعل شيء، ولن تكون فاعلة، إن كانت مؤسسة سلطوية، تتقاسم مع السلطة السياسية الحياة السياسية والاقتصادية ولن تكون قادرة على فعل شيء، وهي تقوم على إفقار الناس بل الإجهاز على ما تبقى لدى الإنسان بحثّه على التبرع والعطاء ولو كان جائعاً، بينما هي ترفل بالمال والذهب والمرتبات والأعطيات.
ولو كان الإيمان فردياً لكان بإمكان أي شخص أن يتقدم وأن يصبح في موقع مؤثر، وعندها سيضرب المثال بالأخلاق والحب لا بالهيمنة والسيطرة والمرجعية!
إن الدولة بمفهوم الدولة، وليست الحكومات تحتاج إلى جهد كل فرد من أفرادها ولا يمكنها الاستغناء عن أي شريحة من هذا المجتمع، ولكن ذلك يكون بالاحترام وتمثل الأخلاق لا بالتورم والتسلط، وخاصة أن القائمين على المؤسسات الدينية في كل زمن هم العارفون بأنك ميت وأنهم ميتون، لكنهم بدل الاتعاظ، عملوا على أخذ كل شيء قبل الموت وقبل الرحيل.
إن شئنا أن نضرب الأمثلة فإنها لا تتوقف من أصغر مصلى إلى أكبر جامع في سورية، ومن حقنا أن نتحدث ومن حقهم أن يردوا، وأن نتناقش، لأن الجدية التي تطرح تؤكد حرصنا على مصلحة المؤسسة الدينية والقائمين عليها، لا يقوم الحديث على النقد وحسب، وأنا واحد من أبناء هذه المؤسسة، وإن لم أكن جزءاً منها برغبتي في ألا أكون، الحديث يراد به التقويم لا النقد والشتم، وخاصة أن الأوقاف تعلم أن كثيرين من الأئمة والخطباء لم يتجاوزوا مرحلة طلب العلم، ويتصدون لأخطر مهمة في الميادين كافة.
إنها مساحة للنقاش عسى أن نصل إلى صورة جديدة غير معدلة، ولو كانت الصورة الحالية منطقية لما تمت مناقشتها بهذه الطريقة التشريحية الموسعة.
أشكر سعة صدر الفاهمين للنقاش، وضيق من ضاق بهذا النقاش، لأنه يعطيني مسوغات الاستمرار من أجل الذات والعقيدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن