قضايا وآراء

في النهوض الروسي: أي حذر؟ أي غفلة؟

| عبد المنعم علي عيسى

حكمة الحذر هي حكمة الأمة الروسية أكثر من أي أمة أخرى في القارة القديمة الحافلة بالأمم والحكم، والأمر لا يخرج عن الطبيعي، فهي عاشت في أرض من أصعب الأراضي التي قطنها الإنسان، وبقدر ما تزداد علاقة الإنسان بالطبيعة صعوبة بقدر ما يرتفع الحذر في الذات الجماعية للأمة، فكيف إذا ما زاد التاريخ على البل السابق كل مآسيه وحروبه القاسية، وكيف الأمر إذا ما كانت تلك الأمة لم تترك فلسفة تحولية إلا وجربتها في سياق بحثها عن النهوض واللحاق بالغرب الماضي في سرعاته الضوئية بعيداً عنها وعن تجاربها المتعثرة.
إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً للوقاية من مطبات كانت في كثير من الحالات باهظة الأثمان، إذ لطالما كان الحذر ولا يزال هو الوجه الآخر للغفلة أو هما كانا دائماً وجهين لعملة واحدة، ولربما كانت المفارقة الكبرى أن الغفلة الروسية قد حدثت – أكثر ما حدثت- إبان تجربة التغريب الماركسية الأشد حذراً شأنها في ذلك شأن ما تفعله كل الفلسفات التحولية، فعشية الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي حزيران من العام 1941 كانت كل القيادة السوفييتية في حالة تأهب إلا جوزيف ستالين نفسه، فوحده كان مطمئناً إلى متانة اتفاقه مع الزعيم النازي وهو لم يشكك به إلا على وقع قنابل المدافع الألمانية التي راحت تدك مدينة «ريغا» الحدودية حتى أحالتها أطلالاً في غضون ساعات، والغفلة عينها تكررت مطلع السبعينيات من القرن المنصرم عندما لم تلحظ قيادة «الترويكا» السوفييتية أن أخوة الإيديولوجيا مع الصين ليست كافية بالضرورة لكي تكون سداً رادعاً يقف بوجه اندفاعات بكين الرامية إلى ترميم ثغرات الاقتصاد، الأمر الذي التقطه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر وعبره استطاع إحداث اختراق إستراتيجي إبان زيارته السرية إلى الصين صيف العام 1971 الأمر الذي أرسى دعائم الهزيمة الساحقة التي ألحقها عهد رونالد ريغن بالإمبراطورية السوفييتية عندما استطاع إجبار ميخائيل غورباتشوف في العام 1987 على تفكيك الصواريخ النووية المتوسطة المنصوبة على أراضي الدول الشرقية للقارة العجوز، كان ذلك التفكيك قد أعطى للأميركيين انفراداً بالسيطرة العالمية لم يستطع الغرب تحقيقه منذ انتصار روما على الشرق في معركة أكتيوم عام 31 ق.م.
اليوم تبدو اللعبة الأميركية قابلة للتكرار لكن مع تبادل في دور البيادق فالتهديد الأميركي بإلغاء معاهدة الصواريخ المتوسطة الذي أكده نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في مؤتمره الصحفي في 22 من الشهر الماضي لا يهدف بالتأكيد إلى الإخلال بالتوازن القائم بين موسكو وواشنطن فهذا الأخير قائم أصلاً ولا حاجة أميركية إلى تحويل القوة الروسية من قوة أوروبية كبرى إلى قوة بحجم أصغر مما لا يساعد في استقرار القارة العجوز المقبلة على تحولات كبرى أكثر ما يقلق فيها تباشير قيام محور باريس- برلين الآخذ بالتبلور مؤخراً، وإنما يهدف إلى إجبار موسكو على اللحاق بـ«أم المعارك» الأميركية الرامية إلى تطبيق السيناريو السوفييتي على القوة والجغرافيا الصينيتين، وهو الأمر الذي فيما لو تحقق فلسوف يرسخ الزعامة الأميركية لخمسين عاماً مقبلة على الأقل، ودونالد ترامب الذي غرد على تويتر أواخر الشهر الماضي مذكراً بأن سياساته التجارية قد نجحت في إبقاء نمو الاقتصاد الصيني للعام 2018 عند حدود 6.6 بالمئة في سابقة لم تحدث منذ العام 1990 يبدو مدركاً جيداً أن ذلك النجاح مرحلي ولابد له إذا ما أريد أن يكون دائماً من أمرين اثنين أولهما تعميق الخلافات الأوروبية- الأوروبية بعدما أضحى الاقتصاد الأوروبي الموحد منافساً قوياً للاقتصاد الأميركي، وثانيهما استقطاب موسكو لجعلها بيضة القبان في ميزان العلاقة مع الصين.
مشكلة موسكو اليوم هي أنها تدرك جيداً مرامي اللعبة الأميركية، إلا أن خياراتها تبدو صعبة أو هي في أضيق حالاتها، فعدم الانجرار وراء تلك المرامي يلزمه الكثير من الأدوات غير المتوافرة بين أيدي صانع القرار الروسي وفي الذروة منها أن موسكو تلحظ أن صرخة النهوض التي أطلقتها في آب 2008 (الحرب الروسية الجورجية) لم يرافقها نهوض اقتصادي قادر على نقل الاقتصاد الروسي من مرتبته المتأخرة التي يحتلها على سلم الاقتصاديات العالمية، ولربما كان الرئيس بوتين نفسه مدركاً قبل غيره أن مشروعه الرامي إلى دخول جنة الخمسة الكبار في غضون السنوات الخمس المقبلة هو محض أحلام طوباوية أكثر منها واقعية في ظل عقوبات أميركية وأوروبية متنامية وهي من النوع الذي يوجع على المديين المتوسط والطويل، ناهيك عن تعثر مشروع «البريكس» وخصوصاً بعد التحولات الجارية في القارة اللاتينية وأخطرها تلك الحاصلة في فنزويلا والبرازيل، أما الدخول في سباق تسلح جديد فالتجارب فيه مريرة وهو ما لن يحقق أكثر من مكاسب تكتيكية آنية لن تلبث أن تتلاشى أمام عثرات الإستراتيجيا المتوخاة من ذلك الفعل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن