تمييز بين الضحايا
حسن م.يوسف :
على الرغم من أنني أدقق، كما المحقق، في تفاصيل الحكايات، والفروق بين الروايات، محاولاً فهم دوافع الناس، وخصوصيات ظروفهم، وملابسات سلوكهم، إلا أنني نادراً ما أسمح لنفسي بأن ألعب دور القاضي لقناعتي بأن عدد القضاة في هذا العالم لا يقل كثيراً عن عدد البشر فيه، فقد علمتني الحياة أن حل أي مشكلة يتطلب فهم أبعادها والناس المتورطين فيها، أما إصدار الأحكام فقد يكون جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
والحق أنني كنت دائماً من المعجبين بالخليفة الزاهد العادل عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب خامس الخلفاء الراشدين، فهو القائل: «إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه، فلعله قد فقئت عيناه جميعاً».
منذ بدء هذه الحرب الظالمة على وطننا الحبيب سورية ونحن لا نكاد نستيقظ من صدمة حتى تنهال علينا صدمات، إلا أن الأسبوع الماضي يبدو هو الأقسى من بين كل ما مضى، ففي الثامن والعشرين من آب الماضي تم العثور على 71 جثة «مهاجر» سوري في شاحنة مهجورة على طريق سريع داخل الأراضي النمساوية بالقرب من الحدود مع المجر. وهذه كارثة من قياس ضخم، تذكر بالمأساة التي قام الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني بكتابة رواية رائعة عنها بعنوان «رجال في الشمس» صدرت في بيروت عام 1963 حول أربعة فلسطينيين من أجيال مختلفة حاولوا التسلل إلى الكويت بحثا عن اللقمة والعيش الكريم فماتوا اختناقاً في الخزان وقام السائق أبو الخيزران برمي جثثهم فوق إحدى المزابل، متسائلاً: «لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟» وقد حولت المؤسسة العامة للسينما بدمشق هذه الرواية إلى فيلم روائي بعنوان «المخدوعون» قام بكتابة السيناريو له وإخراجه المبدع العربي المصري الكبير توفيق صالح.
صحيح أن تفاصيل مأساة المهاجرين السوريين، ضحايا البراد، لم تتكشف بعد، إلا أن ضخامتها ومأساويتها يرشحانها لأن تكون موضوعاً لأكثر من عمل درامي. غير أن مأساة جديدة سرقت الأضواء من كارثة البراد، فما إن أشرقت شمس يوم الخميس الماضي حتى بدأت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام تتناقل مأساة الزورق الذي غرق اثنا عشر شخصاً من ركابه خلال ليل الأربعاء بينما كانوا يحاولون الوصول إلى جزيرة كوس اليونانية التي تعد مدخلا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد ركزت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على الأسرة الكردية التي مات اثنان من أطفالها وأمهما، وخاصة على الطفل الأصغر (آلان) الذي عثر عليه ميتاً على شاطئ أحد المنتجعات التركية و«صعقت صورته ضمير العالم».
لست أنكر أن صورة الطفل الشهيد (آلان) قد زلزلت كياني حقاً، فهي جديرة بأن تقهر كل من لديه قلب، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير بعشرات الأطفال الآخرين الشهداء الذين مر موتهم من دون أن يلتفت إليه أحد، رغم أنهم كانوا لا يقلون براءة عن الطفل (آلان)، مع أن مصائرهم كانت لا تقل مأساوية عن مصيره، وهذا ما جعلني أفكر بقضية التمييز بين الضحايا الذي يضاعف شعور المظلوم بالظلم.
لكن ما يحز في النفس حقا هو استخدام ضباع السياسة لجثة الطفل الشهيد (آلان) كطعم يضعونه في صناراتهم للصيد في مياههم السياسية العكرة. بل إن بعض وسائل الإعلام لفقت معلومات لخدمة أغراضها إذ زعمت أن المهربين كانوا سوريين، على الرغم من أن والد الطفل «آلان» صرح لوكالات الأنباء بقوله: «قفز المهرب التركي إلى البحر ولاذ بالفرار، وتركنا نصارع الأمواج وحدنا، انقلب القارب وتمسكت بولديّ وزوجتي وحاولنا التشبث بالقارب المقلوب لمدة ساعة»!.
وما يفتت الكبد غيظاً هو تباكي بعض الفاشيين الظلاميين على الطفل «آلان» رغم أن تحريضهم على القتل في سورية، ساهم إلى حد كبير في انسداد الأفق ودفع السوريين للبحث عن فرصة العيش الكريم خارج بلدهم!
لشهداء سورية الخلود، ولذويهم العزاء، أما المتسببون بسفك الدم السوري فعليهم لعنة التاريخ والجغرافيا!