قضايا وآراء

إعادة إدارة برامج العبث بالعراق

| أحمد ضيف الله

ما أن أُجبر الأميركيون على سحب قواتهم من العراق في الـ31 من كانون الأول 2011. وفي ظل الأحداث الحاصلة في سورية، حيث كان للعراق مواقف سباقة ومتميزة رافضة للدعوات الخليجية بـ«تسليح المعارضة في سورية»، ما أدى إلى توتر العلاقات بين العراق من جهة وكل من السعودية وقطر ومن يدور في فلكهما من جهة أخرى، والتي تصاعدت بعد القمة العربية الـ23 التي انعقدت ما بين الـ27 إلى الـ29 من آذار 2012 في بغداد، خاصة بعد قول رئيس الوزراء نوري المالكي في مؤتمر صحفي في بغداد في الـ1 من نيسان 2012: إن «لغة استخدام القوة لإسقاط النظام (في سورية) سوف لن تسقطه، قلناها سابقاً، وقالوا شهران فقلنا سنتان، ومرت سنة الآن والنظام لم يسقط ولن يسقط ولماذا يسقط»، مؤكداً أن «وظيفتنا نحن العرب هي إخماد نار الأزمة لأن تطورها سينعكس علينا وعلى لبنان والأردن وفلسطين والمنطقة، وحتى الدول التي تتعامل مع هذه المسألة بلغة القوة».
صافرة التآمر على العراق أطلقها حمد بن جاسم رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري آنذاك، حين قال في مقابلة مع قناة «الجزيرة» الفضائية في الـ29 من آذار 2012: إن بلاده أرسلت وفداً للقمة العربية منخفض المستوى كرسالة للحكومة العراقية التي يترأسها نوري المالكي، لأنها لا تتفق مع ما يحدث من «تجاهل لبعض الفئات في العراق ومنها السنّة». بعدها تصاعدت الأصوات المطالبة بتطبيق الدستور والشراكة في الحكم، وبعدم تهميش الأكراد والسنّة، داعية إلى سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، وهو ما تضمنته الرسالة التي وقعها كل من رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي، ورئيس ائتلاف العراقية إياد علاوي إضافة إلى مقتدى الصدر! موجهة إلى «التحالف الوطني» الذي ينتمي إليه نوري المالكي رئيس «ائتلاف دولة القانون» بعد اجتماع تشاوري لهم في أربيل في الـ28 من نيسان 2012 محددين فيها تاريخ الـ17 من أيار 2012 كآخر موعد لتنفيذ مطالبهم.
كما ترافقت صافرة التآمر مع حملة هجوم غير مسبوقة أطلقتها صحف سعودية وقطرية وإماراتية وأخرى ممولة خليجياً. ففي مقال افتتاحي قال طارق الحميد مدير تحرير صحيفة الشرق الأوسط في الـ3 من نيسان 2012: «… كيف يمكن الوثوق في حكومة عراقية تدعي الديمقراطية، وتطارد سُنة العراق»، داعياً «دول الخليج إلى مقاطعة حكومة المالكي لمنع بروز صدام جديد أو بشار آخر في المنطقة».
ولما لم تُفلح كل الضغوط السياسية المترافقة مع الاحتجاجات والتظاهرات في مناطق من بغداد ومحافظات العراق الغربية: الأنبار وصلاح الدين ونينوى وكركوك، لإسقاط حكومة نوري المالكي. ظهرت أولى ساحات الاعتصام في الرمادي في الـ21 من كانون الأول 2012، تلاها ساحات اعتصام أخرى في محافظات العراق الغربية ومناطق من بغداد التي توافد على منصات ساحاتها خطباء سياسيون كان من أبرزهم وزير المالية الأسبق رافع العيساوي، إضافة إلى رجال دين وشيوخ عشائر بينهم الشيخ علي حاتم سليمان شيخ عشائر الدليم الذي حذر في كلمة له، حكومة المالكي من أن السنّة قد يلجؤون إلى العنف ضدها في حال لم تنفذ مطالبهم، وأن معركتهم ستنتقل إلى بغداد قريباً. وفي الـ26 من نيسان 2013 خرجت تظاهرات كبرى في المناطق الغربية تحت عنوان «جمعة حرق المطالب» حيث أحرق المتظاهرون لافتات كتبت عليها مطالبهم السابقة، فيما أعلن الشيخ قصي الزين، خطيب جامع الرمادي، عن تشكيل جيش باسم «جيش العزة والكرامة»، تلا ذلك بأيام قليلة موجة من التفجيرات الانتحارية العنيفة في العاصمة بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية تسببت في استشهاد وجرح المئات من المدنيين الأبرياء، ترافقت مع قيام مسلحين باستهداف القوات الأمنية والسيطرة على مراكز الشرطة والقواعد العسكرية للجيش في مدينة الفلوجة والرمادي وسامراء، توجت باحتلال مدينة الموصل في الـ10 من حزيران 2014.
هؤلاء السياسيون ورجال الدين وشيوخ العشائر، أسمو احتلال مدينة الموصل من تنظيم داعش بـ«ثورة شعبية عشائرية»، واجتمعوا في عمان برعاية ملكية سامية معلنين دعم واستمرار ثورتهم بينهم عبد الناصر الجنابي نائب قائد «جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني» والمتحدث الرسمي باسمها الذي كان قد فر من العراق بعد صدور مذكرة اعتقال بحقه بتهم تتعلق بالإرهاب، معلناً أن «المشاركين سيتوجهون إلى عدد من الدول العربية لشرح أوضاع الثورة والمطالبة بالدعم وتوضيح الصورة بعدم مشاركة تنظيم داعش فيها».
وما أن سحق العراق بجيشه وحشده الشعبي وعشائره ببسالة تنظيم داعش بدعم والتفاف الشعب العراقي حولهم، وانتصر حتى غاب هؤلاء عن فضائيات «الجزيرة» و«العربية» ومن على شاكلتهما، وتوقفت بياناتهم وتصريحاتهم وتحليلاتهم، بعدما تسببوا بمصيبة كبرى لعراقهم، والتسبب في قتل عشرات الآلاف وتدمير بيوت ومصادر أرزاق أبناء محافظاتهم على وجه الخصوص، وتهجيرهم وانتهاك حرماتهم على يد من أسموهم ثواراً ومجاهدين.
اليوم، وما أن بدأت تتصاعد حملات المطالبة بإخراج القوات الأميركية من العراق وإغلاق قواعدهم خلال الشهور الماضية، حتى عادت ذات الوجوه المتآمرة للظهور مجدداً، وقيام ذات الإعلام الخليجي الداعشي بفضائياته وصحفه ومواقعه الإلكترونية بتلميع هذه الوجوه وقلب حقائق تاريخهم وأدوارهم، مروجاً لـ«المجلس الوطني للمعارضة العراقية» الذي عقد مؤتمره خلال الفترة 11-16 من كانون الثاني 2019، وهو الاسم الجديد لـ«الهيئة التنسيقية للمعارضة العراقية» التي كانت قد عقدت مؤتمرها التأسيسي في تركيا في الـ28 من كانون الأول 2016 برئاسة أمينها العام عبد الناصر الجنابي الذي احتفظ بمنصبه كأمين عام للمجلس الجديد. وقد أعلن محمود السامرائي رئيس مجلس الشورى في المجلس عن «تشكيل حكومة وطنية في المنفى بهدف إدارة المرحلة الراهنة بعد تصاعد حدة الخلافات الأميركية الإيرانية»، وضرورة «إدامة زخم تحرك المعارضة العراقية باتجاه بعض الدول العربية والإسلامية المعنية بالشأن العراقي من أجل صناعة تحالف يضم دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا ومصر والأردن إضافة إلى السودان وماليزيا وباكستان، بهدف التحرك على القوى الفاعلة في المجتمع الدولي للعمل على إنقاذ العراق والإسهام في إعادة إعماره بالتعاون مع المعارضة العراقية الوطنية».
دعوات تشكيل حكومة المنفى هذه تتشابه مع الدعوة التي أطلقها مؤتمر مدينة مشيغان الأميركية الذي نظمه عدد ممن تحتضنهم الولايات المتحدة الأميركية من ضباط ورجال أمن سابقين وعناصر من فدائيي صدام في الـ5 من كانون الثاني 2019، بحضور أعضاء من مجلس الشيوخ الأميركي الذي طالب الحكومة الأميركية «أن تشكل حكومة إنقاذ وطني في العراق»، بقيادة الفريق أول ركن عبد الواحد شنان الـرباط الذي كان قد سُمي محافظاً لنينوى حين سيطر تنظيم داعش على كامل مدينة الموصل.
الخطباء الذين كانوا يتوافدون كل يوم جمعة إلى ساحات الاعتصام آنذاك كان همهم إسقاط العملية السياسية الجارية في العراق. جلهم حرض وقاد مجاميع إرهابية، وهرب فيما بعد خارج عراقه، واحتمى بمسعود بارزاني كمحطة أولى، ثم استقر ما بين قطر وتركيا والأردن والإمارات والولايات المتحدة الأميركية! وشاركوا لاحقاً في مؤتمرات تآمرية عديدة على العراق واستقرار المنطقة العربية، واستمروا على ذلك حتى الآن، منتقلين من ساحة إلى أخرى، رافعين يافطة «نحن خبراء في العمالة والإرهاب للأجرة وتحت الطلب».
قد يبدو أن مثل تلك المؤتمرات غير مؤثرة، وأنها ليست أكثر من محاولات إشغال الرأي العام والعراقيين عما تخطط له الولايات المتحدة لعرقلة انسحاب قواتها من العراق، ومع ذلك انتبهوا فساحات الاعتصام السابقة التي استخف بها البعض، نجحت في إخفاء ما وراءها من مقاصد تآمرية، ما زال العراق يدفع ثمن حُسن الظن بها حتى الآن، ولم يشف من جراح نتائجها بعد، فاحذروا من إعادة إدارة برامج العبث بالعراق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن