ثقافة وفن

المشهد الثقافي لايسر الخاطر أبداً.. وهذه هي الأسباب! … لماذا تنحى «المثقّف الحقيقي» عن القيام بدوره المجتمعي والتنويري المطلوب؟

| هيثم يحيى محمد

الواقع الثقافي الذي نعيشه في ظل (الأزمة-الحرب) وتداعياتها لا يسر الخاطر على الإطلاق لأسباب مختلفة والكثير من أصحاب القرار والمواطنين ينظرون إلى الثقافة بشكل خاطئ ولا يعتبرونها (الحاجة العليا للبشرية) بل على العكس يعتبرونها هامشية ولا داعي لأن تكون في سلم أولويات الدولة والمجتمع في مرحلة إعادة بناء الإنسان..
و(المثقّف الحقيقي) تنحى جانباً ولم يعد يقوم بدوره المجتمعي والتنويري القائد لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية..
بالمقابل نجد أن بعض المثقفين المميزين يؤكدون أنه لا حل للأزمة التي نمر بها وتداعياتها إلا عبر الحل الثقافي ويرون أن مجتمعنا بأفراده وفعالياته الأهلية (المدنية) والدولة بمؤسساتها الرسمية لا يتعاملون مع الثقافة والمثقفين ومع الفكر التنويري والمفكرين المؤمنين به كما يجب.
ما تقدم وغيره دفعنا لإجراء عدة حوارات مع شخصيات وطنية مشهود لها بالفكر النيّر والثقافة الواسعة والحرص على أن تصبح الثقافة حاجة عليا لأبناء الوطن قولاً وفعلاً، ركزنا فيها على تقييم كل منهم للمشهد الثقافي، وأسباب تنحي المثقف الحقيقي عن القيام بدوره المطلوب، ومتطلبات نجاح الحل الثقافي لما نحن فيه، ومقترحاتهم بخصوص تعامل الدولة والمجتمع مع الثقافة والمثقفين والفكر التنويري والمفكرين بما يعود بالخير حاضراً ومستقبلاً على الوطن والمواطنين.. فماذا كانت نتائج تلك الحوارات؟

حيدر حيدر: علينا أن نغير
أنفسنا بمبضع جراح
لم يشأ أن يشاركنا الأديب حيدر حيدر كما يجب واكتفى بالقول: لقد آليت على نفسي منذ زمن ليس بالقصير ألا أشارك في أي نشاط ثقافي عام وغير مجدٍ فالأزمة الثقافية أكثر تعقيدا من كل تصوراتنا ومن الأدوية التي نصفها لهذا المرض المستعصي.
وأضاف: الأزمة في الإنسان قبل أن تكون خارجه.. علينا أن نغير أنفسنا بمبضع جراح قبل أن نغيّر العالم.. وأسئلتك تحرض (بو علي شاهين) كي يحمل بندقيته الصدئة وليخوض ثانية حربه المجانية الخاسرة ثم يُلقى القبض عليه بوشاية من عشيرته ويعدم مرة أخرى على تخوم البحر من دون أن تذرف عليه دمعة!

الأديب أحمد يوسف داود:
نحتاج إلى (ثورة ثقافية)..!
بداية سألنا المبدع أحمد يوسف داود عن تقييمه للواقع الثقافي الذي نعيشه في ظل (الأزمة-الحرب) وتداعياتها فقال: للأسف، إن إنتاج البدائل الزائفة للمثقفين الذين يمكن القول: إنهم مثقفون حقيقيون أو عضويون وفق تسمية (غرامشي) كان يجري على قدم وساق في بلادنا وذلك عبر استبعاد هؤلاء من دائرة الفعل في حياة الناس والمجتمع.. وعبر إنتاج بدائل لهم ممن لا صلة فعلية لهم بالفعل الإيجابي العام في الحياة المجتمعية.. بل إنهم (أي هؤلاء البدائل) يمارسون دوراً ديماغوجيا في إعاقة الوعي العام وفي التجهيل والخنوع للسلبيات الظاهرة التي كان منتقدوها يلاحقون ملاحقة فظة تحت لافتة (إضعاف عزيمة الأمة). والطرق التي اعتمدت في ذلك كانت متنوعة وفظة وسيئة المردود جداً.. والقول في نتائج هذا كله يطول.
إن لدينا الآن أحوالا إعلامية وتعليمية عامة لاتسر الخاطر.. كما أن لدينا عقوبات فظة أمنية وغير أمنية لمواجهة أي انتقادات جادة لنتائج التردي في الوعي العام لدينا.. وبالتالي في إمكانية الفعل الثقافي الايجابي في الحياة المجتمعية الوطنية على مختلف المستويات وفي سائر الميادين.
وبالتالي: وبما أن الثقافة نتاج للوعي العام من جهة وإعادة تهيئة وصياغة له من جديد في مستويات كفؤة لمواجهة التحديات الخطيرة الجديدة من جهة أخرى.. فإن وجودنا وطنياً وقومياً وانسانياً يواجه أحد أكثر المآزق خطورة في تاريخنا الحديث.
وفي اعتقادي أن (الأزمة) كما سميتها أنت التي كانت الحرب الكونية على سورية العربية هي إحدى مراحلها.. هذه الأزمة- الحرب ما كان لها أن تكون بهذه الفداحة لولا قصور الوعي العام قصورا ناجما عن التعتيم على المثقفين الفعليين الذين سميناهم عضويين وجرى استبعادهم على مدى عقود لمصلحة ذلك الاستبدال الفادح!.
نحن نحتاج الآن إلى (إعادة بناء) كفؤة للثقافة الوطنية والقومية في سورية العربية إذا أردنا التصحيح طلبا للنجاة وللنهوض الفعلي على سائر الصعد.. وهذا يتطلب إعادة من هم مثقفون فعلا إلى مكانهم الذي أزيحوا منه.. وحلت فيه البدائل الزائفة رغم تدججها بالألقاب الأكاديمية الطنانة!. وباختصار نحن نحتاج إلى (ثورة ثقافية) إن جاز التعبير.
قلنا له: يلاحظ أن المثقّف الحقيقي تنحى جانباً ولم يعد يقوم بدوره المجتمعي والتنويري القائد.. ما الأسباب برأيك؟
أجاب داود: مما سبق نعرف الأسباب. ففيما كان يجري تنفيذه فعلياً كان يعاكس كليا الأطروحة التي قالها المغفور له الرئيس حافظ الأسد في عبارته الشهيرة: (الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية)..
إننا الآن نعاني ما نعانيه من فساد وترديات إجمالية للحياة في سائر القطاعات والميادين في الحياة السورية – بما في ذلك تمكن أزلام المشروع الصهيوني التدميري للمنطقة من إثارة لهذه الحرب المستندة إلى الكثير من العوامل الموروثة – بسبب تغييب الثقافة الوطنية والقومية من حياتنا وإحلال ثقافة الفساد والمتاجرة الرخيصة بحياة السوريين محل الثقافة التطويرية العلمية الكفؤة.. وبسبب استهلاك محصلات هذه الحياة الوطنية، سلما وحربا، لغايات تحقيق المنافع للفئات الفاسدة المسيطرة.
والتفصيل هنا أوسع كثيراً من أن يلخص في إجابة بسيطة.
وتابعنا بسؤاله: بعض المثقفين المميزين يقولون إنه لا حل للأزمة التي نمر بها وتداعياتها إلا عبر الحل الثقافي.. ما رأيكم.. وما متطلبات نجاح هذا الحل؟
أجاب: قولهم صحيح نسبيا إذا استخدمنا المصطلح (ثقافة) بمعناه العام ومدلولاته الشاملة.. ولكن الحل يتطلب فعليا إجراءات بنيوية جذرية شاملة في أوضاع المجتمع السوري وتهيئته بشكل فاعل لتحقيق نقلة واعية وكفؤة نحو مستوى ينهي ثقافة الفساد إنهاء شاملاً وتحل محلها ثقافة العدالة والحرية والديمقراطية والعلمانية.. وهذا بدوره هو -في الوقت ذاته- إعادة إنتاج جذرية للثقافة الراهنة وللمثقفين أنفسهم. إن التطوير التاريخي الكفء والموضوعي لا تحققه مقالة أو قصيدة أو دراسة أو رواية.. أو محاضرة، بل هو نتاج فعالية تطويرية عامة حرة بقدر ما هي مبرمجة للوصول إلى هدف البقاء الارتقائي الناجع في سياق حركة الوضع الإنساني العام الراهن.. وهنا استذكر باحترام كبير مقولة أنجلز الشهيرة: (الحرية هي وعي الضرورة).
وهل ترى أستاذ أحمد أن مجتمعنا بأفراده وفعالياته الأهلية (المدنية) والدولة بمؤسساتها الرسمية يتعاملون مع الثقافة والمثقفين ومع الفكر التنويري والمفكرين كما يجب؟
قال: اعذرني يا صديقي المحترم إن قلت لك: إن سؤالك هذا يحمل الكثير من الفانتازية القائمة على طيبة القلب وحسن النية.. فمادام الفساد قد أعاد إنتاج الهيئات المجتمعية والمؤسسات الدولية عموماً.. هل ننتظر من الأفراد أن يكونوا متعاونين مع الفكر التنويري عموما؟. وأنا أورد كلمة عموماً هنا للإشارة إلى وجود فئات واسعة- ربما تشكل الأغلبية في مجموعها- لم تعد مهتمة بالثقافة بمعناها المحدود بل كل اهتمامها ينصب على تحصيل مقومات البقاء.. عموماً أيضاً!

الأديب غسان كامل ونوس:
الثقافة فرض عين على كل فرد
عن تقييمه للواقع الثقافيّ الذي نعيشه في ظلّ (الأزمة- الحرب) وتداعياتها أجاب ونوس بالقول:
ونحن نعيش الهزيع الأخير من الأزمة- الحرب الكارثيّة على سوريّة، مهمّ أن نمعن النظر في مختلف الميادين الحياتيّة، ومنها؛ إن لم يكن أهمّها، المشهد الثقافيّ.. ونأمل أن نكون في طريقنا إلى الخلاص الآمن من العدوان، بهذا الشكل المتداخل خارجيّاً وداخليّاً، والمتشابك سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، والمتشارس عسكريّاً وإعلاميّاً، والمتعالق فكراً وشعارات وممارسة.. وكلّ هذا التوصيف على اتّساعه، مقصّر في الإحاطة بحدوده وأشكاله وفروعه وعمقه ومدياته، وتداعياته على الواقع والمسار والمآل، وهو يحتاج للوصول إلى هذه الأبعاد، إلى الثقافة، التي تستذكر التاريخ، وتتقرّى الحاضر غير البعيد قبل الكارثة، وتدرس الوقائع والنتائج، وتستثمرها في تصوّر المراحل الآتية، والتخطيط للمستقبل المنشود.
ولم يكن البقاء على قيد الوجود؛ دولة وشعباً ومبادئ ومواقف، على الرغم من الخسائر الفادحة في كلّ شيء، من دون عناصر إيجابيّة؛ من رؤى خبيرة، وبنى صلبة، وإرادة واعية، وكوادر وطنيّة مخلصة مضحّية.. ولم يكن وجود هذا ممكناً بهذه القوّة والثقة من دون الثقافة، التي لا تعني التحصيل العلميّ والمعرفيّ، والكتابة والفنون، على أهميتها فحسب، ولا تعني المهمّة الثقافيّة؛ بل تعني القدرة على الملاحظة والفهم والتحليل والاستنتاج، وقراءة ما بين السطور، وما خلف الأقوال، وما بين الوقائع ووراءها؛ فالشعب المثقّف هو من حمى البلد من الانهيار والاندثار.
قلت هذا وكتبته منذ المراحل الأولى للأزمة الكارثيّة، وكنت واثقاً، بلا أدنى ريب، من القدرة على تجاوز هذه المحنة على شدّة وطأتها؛ لكنّها ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وليست روح المقاومة والمواجهة الضارية التي تبدّت لدى أكثريّة الشعب، طارئة ولا عارضة، ولم تأتِ من فراغ؛ كما لم تأتِ الكارثة من الغيب؛ بل لها عوامل وأسباب ومقدّمات أدت إليها، وساعدت على استشرائها، وفاقمت تأثيراتها وانعكاساتها على مختلف مناحي الحياة… وهذا ما يفترض أن يدرس ويقوّم بجرأة وموضوعيّة وجدّيّة ومسؤوليّة، وعلى الثقافة أن يكون لها الدور الأساس في ذلك.. لكن، وبالعودة إلى سؤالك الذي أفضنا في التقديم الضروريّ له؛ للأسف لم يكن الأداء الثقافيّ خلال الأزمة على قدر خطورتها، ولا على قدر المطلوب، أو المأمول، ولم يكن الواقع الثقافيّ على المستوى العام والخاصّ، الجماعيّ والفردي، كما يجب؛ نعم كانت هناك مواقف وإجراءات ونشاطات اتّخذت المنحى الفرديّ، والمحلّي، والارتجاليّ، والانفعاليّ، وبقي حضورها باهتاً، وتأثيرها محدوداً.. ومن المؤسف، وما يدعو إلى المرارة، أن الأمر ما يزال كذلك، إن لم يكن أسوأ؛ لأن هناك من تنطّع لقطف ثمار الانتصار، «وتدّعي حبّ سيف الدولة الأمم!».
ولا بدّ من تكرار القول الذي أعلنتُه في غير ميدان ومناسبة: لا يمكن أن يتغيّر الحال إلى الأفضل، بعد الكارثة، بالعقليّات ذاتها، وبالآليّات عينها، وبالأشخاص أنفسهم.. وممّا لا شكّ فيه أن المطلوب عمل حقيقيّ وحيويّ وفاعل على امتداد الوطن وعلى جميع المستويات، وفي جميع المجالات، وهذا يحتاج إلى من هو راغب وقادر وواثق من نفسه ومن الثقافة…
وعن الأسباب التي جعلت المثقّف الحقيقيّ يتنحّى جانباً، ولم يعد يقوم بدوره المجتمعيّ والتنويريّ القائد.. يجيب ونوس: يجب الاعتراف أوّلاً، أن نسبة المثقّفين الحقيقيّين، من بين من تطلق عليهم التسمية: «المثقّفون»، ليست كبيرة؛ ومن يظهر منهم قليل عديدهم، من بين من يشغل المنابر والمنافذ الإعلاميّة، مسؤولاً أو ضيفاً يكاد يكون مقيماً؛ ناهيك عن مواقع المسؤوليّة الثقافيّة، أو سواها؛ وسواء أكانوا متنحّين من أنفسهم، أم تمّت تنحيتهم بأساليب مباشرة، أو غير مباشرة، فالخسارة واقعة، وإن كنت لا أسوّغ لأحد منهم انكفاءه عن مسؤوليّته، التي يتحمّلها بالضرورة تجاه مجتمعه ووطنه، بوصفه مثقّفاً؛ ولاسيما في الأحوال غير الطبيعيّة؛ فإن من الطبيعيّ، في ظلّ الواقع الثقافيّ السائد غير الطبيعيّ، أن يكونوا خارج المسار الفاعل والحيّز المُجدي؛ لأنهم أصلاً خارج دائرة الاهتمام المسؤول وغير المسؤول، ولم يُنظر إليهم يوماً كما ينبغي، قبل الأزمة ولا في أثنائها؛ لأسباب تاريخيّة ومعاصرة قائمة ومستمرّة في المجتمع، وتتفاقم لدى الجهات النافذة في مختلف التيّارات والمناحي والمسؤوليّات.. وقبل أن نلوم الجهات غير الثقافيّة في ذلك، وهي تتحمّل جزءاً مهمّاً من المسؤوليّة قديماً وحديثاً، مع الإشارة إلى أن من الصعوبة بمكان الفصل التام بين ما هو ثقافيّ وغير ثقافيّ؛ لأن الثقافة كالنسغ الذي يوصل الغذاء إلى آخر فرع أو ورقة في الشجرة المعمّرة، والفتيّة، لا بدّ من أن نقول: إن للوسط الثقافيّ؛ مشكلاته التي يتشارك بها مع الأوساط الأخرى، تلك المشكلات النابعة من التربية والمفهومات والسياقات والمعتقدات والممارسات؛ كما له مشكلاته الخاصّة به.. لكنّ المثقّف الحقيقيّ لا ينأى بنفسه، ولا ينبتّ عن معاناة ابن جلدته الإنسان في أي مكان؛ ناهيك عن ابن وطنه؛ ولاسيما في القضايا المصيريّة والأحوال الضاغطة.. لكن إلى الحدّ الذي يستطيعه كيانه، وتتحمّله كرامته، وثقته بنفسه وبالناس، وقدرته على الفعل المؤثّر إيجابياً في الخلاص المنشود؛ فهناك معوقات وعثرات ومحاولات إبعاد وتهميش وإهمال.. لا تتوقّف، ومن المؤسف أن «المثقّفين» أيضاً مشاركون فيها؛ بل بارعون بها، حين يتسنّى لهم ذلك في أيّ درجة من المسؤوليّة، وحتّى في غياب المسؤوليّة بالمفهوم النافذ، يمكن أن يمارسوها بالنقد غير البنّاء لنتاجات زملائهم، وتشويه صورهم، ويمكن أن يكون لممارسات كثيرين من المثقّفين، وقبولهم بالتبعيّة والاستزلام لأصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعيّ والإعلاميّ، من غير المثقّفين، ومنهم من يأخذ مواقف، وينشر آراء غير ثقافيّة، ولا متوازنة… كلّ هذا يضيّق الحيّز الذي يمكن أن يكون المثقّف الحقيقيّ موجوداً فيه، وفاعلاً، وتنويريّاً، ويزيد من حال الثقافة البائس، يضاف إلى ذلك ازدياد الطلب على الحاجات التي لا تكفي، ولا يتمّ تأمينها بسهولة، وتأخذ وقتاً وجهداً وانشغالاً، وترهق المرء وتستنزف طاقاته النفسيّة والمادّيّة؛ كما تسهم سهولة الظهور والنشر، التي تؤمّنها التقنيّات الإعلاميّة الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، مع التسويق المجّانيّ، وسيل الإعجابات والألقاب والشهادات غير المسؤول، سيجعل النصّ المتميّز، والفكر النيّر، والرأي الجاد، والموقف المسؤول.. في سباق غير متكافئ السبل والمعايير والنتائج؛ إضافة إلى التشويش الذي يحدث، وعكر الذائقة، وفساد البيئة التي تنتج وتقيّم، وضبابيّة المشهد، الذي يظهر لناظر أو متابع.. مع كلّ هذا، يبقى هناك من يرى، ويحسّ، ويستشعر، ويعبّر عن وعي ورؤية وثبات وأصالة في السعي والمشروع والغاية.
وعن رأيه بقول بعض المثقّفين المميّزين بأنه لا حلّ للأزمة، التي نمرّ بها وتداعياتها إلا عبر الحلّ الثقافيّ.. ومن ثم وجهة نظره بمتطلّبات نجاح هذا الحلّ قال:
سبق أن قلت، وما أزال: إن هناك أشكالاً للحلّ لا بدّ منها، ولا بديل منها في أوقات وظروف ومراحل؛ لكنّ الحلّ الثقافيّ هو الأكثر جدوى لكلّ المراحل والظروف والأوقات، قبل الأزمة، وخلالها، وبعد انتهائها؛ فهو الأنظف، والأكثر أثراً واستمراريّة، وهو من الناس وإليهم، ويأخذ على عاتقه معالجة المشكلات المزمنة، والأخرى غير المنظورة، في إطار القراءة الجادّة والتقرّي الواعي لمختلف العناصر والمواد والظروف والمؤثّرات والتداعيات، ما كان ويكون، ويمكن أن يكون، وبلا خسائر في النفس والجسد والإمكانات؛ بل العكس هو الذي يسود، والجميع رابحون، ولو بعد حين.. الحلّ الثقافيّ يرمّم الصدوع والثغرات، التي تسلّل منها الخراب؛ بل عبرها بلا تخفّ؛ لهشاشة في التكوين، وقصور في التحسّس والمراقبة، وعجز في الانتماء والتبنّي… والحلّ الثقافي يقوم على الحوار، الذي يكشف النواقص، ويخلّص من التفرّد، ويؤدّي إلى الأفضل، ويحصّن، ويزيد من المنعة، ويعوّد الناس على المشاركة؛ لأن الجميع مسؤولون؛ كلّ في نطاقه؛ ابتداء من الأسرة، وصولاً إلى الحضور في أي موقع محصور أو مفتوح؛ فالثقافة فرض عين على كلّ فرد، وليست فرض كفاية على المثقّفين وحدهم.
ومن المؤكّد أن الحلّ الثقافيّ، يتطلّب إيماناً به وبالناس، وسعياً لتأمين الكوادر والظروف المناسبة للمضيّ به، والقيام بمبادرات فاعلة في جميع الأحياز والمستويات والمجالات.. ولا يمكن الحديث عن تربية بلا ثقافة، ولا عن سياسة وإصلاح بلا ثقافة؛ ولا وطنيّة بلا ثقافة، ولا مقاومة وتضحية بلا ثقافة، ولا إصلاح اقتصاديّ أو اجتماعيّ، بلا ثقافة، ولا إعلام مُقْنِعاً بلا ثقافة، ولا يمكن مواجهة التطرّف قي المعتقد والفكر والسلطة بلا ثقافة، ولا بدّ من وجود الرمز الوطنيّ والإنسانيّ، والقدوة النبيلة الخيّرة، والنظرة الحيويّة الواثقة المبادِرة، وهذا يحتاج إلى ثقافة… فلا بركة في أي حركة من دون ثقافة، ولا معنى للحياة بلا ثقافة.. وقد سبق أن فصّلت في مشروع للحلّ الثقافيّ بمتطلّباته ومراحله وعناصره، لا مجال لإعادة كلّ ذلك هنا.
وفيما إذا كان مجتمعنا بأفراده وفعاليّته الأهليّة (المدنيّة) والدولة بمؤسّساتها الرسميّة، يتعاملون مع الثقافة والمثقّفين ومع الفكر التنويريّ والمفكّرين كما يجب يقول ونوس: بشفافيّة وصدق وغصّة: لا أبداً، لا يحدث ذلك؛ ما عدا بعض المهتمّين، من المسؤولين والمتابعين بهاجس ثقافيّ شخصيّ؛ بل إن المشهد الثقافيّ، والظهورات الثقافيّة، في معظمها إعلاميّة إعلانيّة مظهريّة، مبرمجة بما هو مطلوب ورقيّاً؛ فيما الأداء الواقعيّ ذو فاعليّة ضئيلة، وجدوى أقلّ.. هناك الإمكانات غير المتوافرة؛ كما يُشتكى دائماً، والعناصر غير القادرة؛ لأنّها غير حاملة ما يفيد ويقدّم جديداً، أو يفاعل ويطوّر، وما تزال التعيينات التي تتمّ في الوسط الثقافي، لا تعتمد الأهليّة الثقافيّة المعرفيّة والسلوكيّة.. ويكفي أن نلاحظ الغياب الكبير للعناصر الشابّة، عن النشاطات حضوراً ومشاركات، وغياب التفاعل بين الأجيال، أو التكامل أو التتابع المطلوب، حتّى نقف على البؤس الذي تعانيه الحال الثقافيّة، في ذاتها، وفي الوسط الذي يفترض أن يكون خصيباً، محترماً للثقافة، حاضناً لها، مموّلاً ومورّداً إمكانياتٍ ومواهب.
هناك أمر نبتعد عن الخوض فيه؛ ونركّز على جوانب أخرى، ليست بلا أهمية، على الرغم من أنّنا نمارسه حتّى في تفكيرنا الذاتيّ، وتعاملنا الشخصيّ؛ وصولاً إلى المؤسّسات والآخرين، هو أن اعتمادنا في الفكر والثقافة، على ما نتلقّى، أو نُلقَّن، أو نؤمر به، من دون استعمال الفكر النقديّ في كلّ موضوع، أو فكرة، أو قول، أو إشاعة… ونبتعد عن المنفتحين على أفكار غير ما نؤمن به، أو ما نعتقده، أو ما نحفظه، ونسعى إلى إبعادهم؛ لنرتاح من التفكير، ومن تبعاتهم! إن هذا خطر مقيم، أساسه اعتقاديّ (خطاب دينيّ)، وامتداده سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ وتربويّ وعلى مختلف المستويات!
وبخصوص مقترحاته لمعالجة هذا الواقع يقول ونوس:
إنّ المطلوب كبير ومديد، من الجميع بلا استثناء؛ مسؤولين ومجتمعات.. ومن هذا المطلوب ما يلي:
– إغناء البيت ثقافيّاً، وبالوسائل والعناصر الممكنة، (مجلّات، جرائد، مكتبة، آلات موسيقيّة…)، وإشاعة أسلوب الحوار والتحفيز بأسلوب غير مباشر.
– تشجيع المبادرات الثقافيّة في المدارس، واكتشاف المواهب، والحثّ على التواصل مع المكتبة وإهدائها الكتب، والاستعارة منها، وأن يُمنح المتفوّقون في المذاكرات والامتحانات كتباً أو مجلّات ثقافيّة.
– التواصل الجادّ بين المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة والتعليمية باستمرار ومنهجيّة..
– الخروج إلى الجمهور الثقافيّ في مواقعه؛ في القرى، والمدارس، والحارات، وأيّ تجمّعات قائمة أو ممكنة.
– الابتعاد عن الخطابة والشعارات والمناسباتيّة والارتجال.
– اعتماد أسلوب الحوار والإقناع والعرض الأليف والقرب والتواضع والجدّيّة والصبر.
– طرح القضايا التي تهمّ الناس، والتعمّق في عرضها ومناقشتها واقتراح الحلول الممكنة.
– عدم تكرار الأسماء والموضوعات؛ ولاسيما المستهلك منها، واعتماد الجديد والمفيد والحيويّ.
– من الضروريّ أن يتبع كلَّ نشاط ثقافيّ نقاشٌ حول عناصره (ويمكن أن يحضَّر المحاورون مسبقاً): الموضوع، المادّة المقدّمة، الأسلوب، الأداء، الخلاصة، الدعوة إلى النشاط، الحضور وصولاً إلى الجدوى.
– من الضروريّ أن ينتج عن النشاطات الثقافيّة النوعيّة خلاصات ومقترحات وتوصيات، ترسل إلى الجهات المعنيّة للمتابعة والتنفيذ..
– على أي مؤسّسة أو جهة أن تجري تقييماً موضوعيّاً لنشاطاتها الثقافيّة (وغير الثقافيّة)، خلال مدّة معلومة: أسبوع، شهر، عام، دورة… وبعد كلّ نشاط نوعيّ: مهرجان، ندوة، فيلم، أيام ثقافيّة بعنوان محدّد، وبمناسبة معيّنة.
– الاهتمام بمثقّفينا، وعدم تغييبهم لمصلحة مثقّفين نستجلبهم من جهات ودول أخرى.
– الاهتمام باللغة العربيّة الفصحى، وعدم تغليب اللهجات العامّيّة عليها؛ ولاسيما في النشاطات الثقافيّة.
– الاهتمام بالنصوص والقيمة الإبداعيّة فيها، لا بالأشخاص؛ جنساً أو موقعاً أو لقباً، على حساب الجودة.
– الابتعاد عن الشخصانيّة في العمل الثقافيّ، والتحلّي بالموضوعيّة.
– الاهتمام الجادّ بالأجيال الشابّة ثقافيّاً، وتحفيزها على الإسهام الفعّال في الفعل الثقافيّ.
– الاهتمام الجادّ بما في الريف من إمكانيّات ثقافيّة، والإضاءة عليها واستثمارها في الرصيد الثقافيّ العام.
– البحث المستمرّ عن المواهب في كلّ مكان، والاهتمام بها ورعايتها.
– إغناء الصفحات والمواقع الإلكترونيّة الثقافيّة بالمواد الجادّة المراجَعة، والتغطية الموضوعيّة للنشاطات المميّزة؛ بدلاً من إغراقها بالصور الشخصية، الرسميّة وغير الرسميّة، والكلام المجّانيّ، والتقييمات العاطفيّة غير المسؤولة.
– التواصل بين المؤسّسات الثقافيّة والمؤسّسات التي لها طابع اجتماعيّ (المنظّمات والنقابات…)، والقيام بنشاطات مشتركة، ودوريّة.
– التواصل مع مجالس المدن والبلدان والبلديّات، التي لديها مخصّصات للثقافة والتعاون على صرفها بما هو ثقافيّ مفيد ومجدٍ.
– الاهتمام بأصحاب الإنجازات الثقافيّة، وتكريم المتميّزين منهم.
– إطلاق المسابقات الأدبيّة والثقافيّة الجادّة، في مختلف المستويات والأحياز المحلّيّة والقطريّة.
– إقامة مسابقات ثقافيّة مباشرة في التجمّعات (الأحياء والحارات والساحات والحدائق العامّة)، وفي المؤسّسات الثقافيّة وسواها (في المدارس والمؤسّسات التعليميّة وغير التعليميّة المختلفة)، أمام الجمهور، واختيار المتسابقين من بين الجمهور، وتسليم جوائز للفائزين.
– تكريم المتميّزين ثقافيّاً بشكل دوريّ، وباعتماد معايير شفّافة وواضحة ومعلنة، ويكون التكريم مادّيّاً ومعنويّاً ومشهوداً.
– عدم الاهتمام بالألقاب المجّانيّة، والتكريم غير المسوّغ، والفوز بالمسابقات الاستعراضيّة الأرضيّة والفضائيّة؛ المحلّيّة والخارجيّة.
– المتابعة الإعلاميّة الجادّة والواعية للنشاطات الثقافيّة في مختلف المناطق؛ ولاسيما في الريف، والإضاءة على الموهوبين ونتاجهم وإنجازاتهم.
– تثقيف الإعلام بشكل عام، ويفترض أن يقوم بالإعلام الثقافيّ من لديهم هاجس ثقافيّ، أو هم أقرب إلى الثقافة، وإذا أمكن أن يتولّى ذلك مثقّفون يمكن الاستفادة منهم إعلاميّاً.
– تواصل المؤسّسات الثقافيّة مع المؤسّسات التعليميّة، وإقامة نشاطات بالاشتراك معها وفيها، ورعاية الموهوبين، وإقامة المسابقات الثقافيّة؛ ولاسيما الكلّيّات الجامعيّة القريبة من المنحى الثقافيّ (كلّيّات الآداب والعلوم الإنسانية).
– أن يكون القائمون على الشؤون الثقافيّة، المسؤولون والرعاة (بشكل مباشر أو غير مباشر)، في أي منظّمة ونقابة ومؤسّسة، وفي أي مكان وزمان، ممّن لهم شغف بالثقافة، أو هاجس حقيقيّ بها.
– الاهتمام بمفهوم القدوة والرمز الثقافيّين، من الأحياء والراحلين.
– تطوير وسائل الدعوات إلى النشاطات، وتشجيع الزائرين، والعمل على الاستزادة منهم.
– الحيويّة والتنوّع في النشاطات، والاعتماد على معايير الإمكانية والجدوى في استضافة المشاركين في النشاطات.
– الحدّ من الأفكار الغيبيّة والخطاب الدينيّ، وإفساح المجال لممارسة التفكير النقديّ على أوسع نطاق.
– الجانب المادّيّ مهمّ؛ إضافة إلى الجانب المعنويّ، ويمكن البحث فيه حسب الإمكانات، من دون أن تلجأ الثقافة إلى التسوّل من أصحاب رؤوس الأموال، أو غسلها لهم!!
– أن يكتنف الاحترام والجدّ والشعور بالمسؤوليّة مجملَ عناصر الفعل الثقافيّ؛ أي فعل ثقافيّ تقوم به جهات عامّة أو خاصّة.
– الثقافة هي الحلّ الأنظف والأوفر والأبقى، والأكثر أماناً وضمانة وحصانة؛ فلتعطَ ما تستحقّ من اهتمام وجهد ووقت وإمكانية.

أخيراً
نشير في الختام إلى أننا سنتوقف في عدد قادم مع آراء مثقفين ومفكرين آخرين لنغني هذا الملف المهم الذي نضعه بتصرف من يهمه الأمر من فعالياتنا الرسمية والحزبية والأهلية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن