طغى جو إيجابي واسع في المنطقة بعد التحركات السياسية التي بادرت إليها بعض الدول العربية تجاه سورية، ومنها زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى دمشق ولقاؤه الرئيس بشار الأسد، والرسالة الإقليمية التي حملها معه، أو حُملت له لإبلاغها للقيادة السورية، ثم إعادة افتتاح سفارتي دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين في دمشق، والتسريبات الصحفية حول قرب استعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية، ولكن هذه الأجواء الإيجابية التي طغت على دول المنطقة توقفت فجأة بفعل فاعل أميركي، حيث حط ديفيد هيل مساعد وزير الخارجية الأميركية في لبنان قبل قمة بيروت الاقتصادية ليقطع الطريق على هذه الجهود التي تبذلها بعض الدول العربية، ورافق ذلك جولة لوزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو بدأها بالقاهرة حيث مقر الجامعة العربية، وحيث دور مصر الممكن لفرملة هذه الاندفاعة العربية، فجاء تصريح سامح شكري ليربط عودة سورية إلى الجامعة بشروط سياسية، ومنها تنفيذ القرار 2254، وهو أمر لم يكن مطروحاً في السابق، وليتطور الموضوع إلى ربط إعادة الإعمار بالحل السياسي، كما يسمونه، وإيجاد معبر عربي أوروبي لعودة سورية للجامعة ظهر جلياً من خلال الاجتماع الوزاري العربي الأوروبي الخامس في بروكسل في الرابع من الجاري والذي أكد أن «الحل السياسي هو المخرج الوحيد للأزمة السورية حسب القرارات الأممية ذات الصلة».
أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط قال في لقاء بروكسل: إن أي عودة لسورية لشغل المقعد يتوقف على وجود توافق عربي كامل (!) وحتى هذه اللحظة هناك تحفظات، ولست في وضع لأن أتحدث عمن يتحفظ، ومن لا يتحفظ، ومن له رؤية، ومن لا يفضل أن يكشف رؤيته؟ ولكن في اللحظة التي نستشعر أن هناك توافقاً كاملاً عندئذٍ فقط يجب أن يصدر قرار من مجلس وزراء الخارجية العرب يدعو وفداً سورياً إلى دمشق لشغل المقعد، ولم نصل إلى هذه اللحظة بعد».
هذه التصريحات لأبو الغيط، ولـسامح شكري جاءت من منبرين أحدهما أوروبي أو «أطلسي» في بروكسل، والآخر جاء قبل زيارة بومبيو للقاهرة، ومن ثم فإن هذه التصريحات ليست نابعة من قرار عربي سيادي داخل الجامعة إن صح هذا التعبير، إنما ناجم عن ضغوط غربية وبالأساس أميركية، تنطلق من زيادة الضغوط على سورية في كل المجالات الاقتصادية والإعلامية والسياسية، عَلَّ واشنطن تحصل على نتائج سياسية فشلت في الحصول عليها عبر دعم الإرهاب والإجرام والتدمير.
وحسب معلومات صحفية فإن الدول العربية المؤيدة لعودة سورية للجامعة هي: لبنان، الجزائر، العراق، تونس، السودان، الإمارات، البحرين، مصر، فلسطين، وهذه الدول موقفها إيجابي تجاه هذه المسألة، وبغض النظر عن كل هذه النقاشات والتصريحات، فإن ما يفوح منها هو رائحة الضغط الجديد على دمشق والتي رد عليها نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بالقول: إن محاولات فرض شروط على دمشق لإنهاء تعليق عضويتها في الجامعة العربية لن تنجح، داعياً الأمم المتحدة لمقاطعة مؤتمر بروكسل للمانحين المقرر منتصف الشهر الجاري.
ماذا نفهم من مجمل هذا الجدل والنقاش الجاري؟ إن واشنطن وأتباعها في المنطقة مازالوا يتوهمون أن بإمكانهم أن يحصلوا على مكاسب سياسية فشلوا بالحصول عليها بعد سنوات ثمانٍ من الحرب الفاشية على سورية، وهذا الأمر كان بالإمكان أن يتحقق لو قبلت سورية منذ سنوات شروطهم المعروفة، وهذا الأمر لم ولن يتحقق، وللأسف فإن بعض الدول العربية لا تزال تسير خلف واشنطن من دون قراءة موضوعية للتحولات التي جرت في الميدان السوري لتسأل نفسها: مِنْ بحاجة للآخر، سورية أم الجامعة العربية؟ وبغض النظر عن الجواب فإن المنطقة تغيرت جذرياً، والشعب السوري المقاوم الذي عانى ولا يزال يعاني من آلام ونتائج هذه الحرب الإجرامية، لن يسمح أن يأتي أحد ما في هذه المرحلة من الحرب ويسلبه نتائج صموده وتضحياته الهائلة تحت عنوان سخيف مثل «عودة سورية للجامعة العربية»، لأن هذا الموضوع لو أجرينا استفتاءً شعبياً عليه لوجدنا بأن الأغلبية الشعبية السورية ضد عودة سورية للجامعة، لأن هذه الجامعة كانت المنبر الأول الذي سهل الحرب العدوانية عليها دولة وشعباً، ومن ثم لا يحق لمن كان مسهلاً للعدوان أن يضع شروطاً، لا بل إن دمشق أبلغت الرئيس البشير أنها ليست بصدد تقديم أي طلب للجامعة العربية للعودة إليها، وأن من جمد عضويتها عليه أن يتراجع عن ذلك، لأن قراره كان غير ميثاقي وغير قانوني، كما أن من أغلق سفارته عليه أن يعيد فتحها لأن دمشق لم تطرد أحداً من السفراء العرب.
تبقى هناك أسئلة مركزية تحتاج لإجابات من هذه الجامعة العربية، ومنها: هل ستحاسب هذه الجامعة أحد دولها الأعضاء التي اعترف وزير خارجيتها السابق حمد بن جاسم أنه أنفق أكثر من 137 مليار دولار على تدمير بلد مركزي، ومؤسس للجامعة مثل سورية؟
هل ستطالب الجامعة العربية بمحاسبة الدول التي سخرت منابر الدين للتحريض على القتل، والإجرام في سورية وغيرها، وهناك مئات التسجيلات التي يمكن تقديمها لهم حول ذلك؟
هل ستحاسب جامعة الدول العربية الدول الأعضاء فيها التي وضعت مطاراتها، ومنشآتها العسكرية، وأرسلت القتلة والمجرمين لتدمير بلد عربي مثل سورية، لا بل استضافت غرف عمليات استخبارية لقيادة التآمر عليها؟
هل ستبقى جامعة الدول العربية غرفة ملحقة بالولايات المتحدة الأميركية لتخدم سياساتها المعادية للعرب قبل غيرهم، ومن ثم ما الفائدة من العودة لجامعة تابعة، لا قرار لها ولا تعترف بأخطائها الكارثية التي ارتكبتها تحت سقف الجامعة؟
هل تؤمن الدول الأعضاء في الجامعة بالحد الأدنى للمصالح المشتركة، أم إن حليمة ستعود لعادتها القديمة، وتتجدد مرة أخرى دورات التآمر لكن بأشكال أخرى!
أستطيع هنا أن أطرح عشرات الأسئلة الجوهرية التي تحتاج للإجابة من أولئك الذين يتفلسفون علينا الآن بموضوع العودة للجامعة العربية كي يتوقفوا عن التنظير على سورية وشعبها، ويسألوا أنفسهم مرة أخرى سؤالاً أساسياً: أما آن لكم أن تتوقفوا عن هذه السفسطة وتقولوا بصراحة ووضوح إننا لم نتلق ضوءاً أخضر أميركياً بهذا الشأن، وحين نتلقاه سيتحقق الإجماع العربي الذي تحدث عنه أبو الغيط في بروكسل.
ريثما يأتيكم الضوء الأخضر المطلوب، فإن دمشق مستمرة في خياراتها الإستراتيجية السياسية والعسكرية والمقاومة والمكافحة للإرهاب، وحينما تقررون قد لا تجدون لأنفسكم مكاناً حول الطاولة لأن الأتباع لا يجلسون للأسف، ولا يُسألون عن مستقبلهم.
فكروا جيداً، واستعينوا بصديق قبل الإجابة.