عاتبني أحد الأدباء على ما جاء في محاضرتي التي ألقيت نيابة عني في ندوة «الآداب والفنون والارتقاء بالثقافة» التي احتضنتها مكتبة الأسد الوطنية في مطلع الشهر الأخير من العام الماضي، لقولي إن المقامة شكل من القصة القصيرة أبدعها الشرق قبل أن يعرف الغرب القصة القصيرة بقرون. وقد رأى فيما ذهبت إليه نوعاً من الخلط على طريقة: «أُمَوِيُونَ فإن ضِقْتِ بِهِمْ / أَلْحَقُوا الدنيا بِبُستانِ هِشامْ». وقد ذكرني هذا العتاب المشكور بتقصيرنا جميعاً تجاه العبقري الفذ بديع الزمان الهمذاني الذي مرت ذكراه المزدوجة في العام الماضي دون أي اهتمام، فقد ولد عام 968م. أي قبل عشرة قرون ونصف القرن وتوفي عام 1008م. أي قبل عشرة قرون وعشرة أعوام.
عاش الهمذاني حياته كشهاب ساطع وانطفأ في الأربعين من عمره، وقد نسب إلى مكان ولادته في (همدان) الإيرانية ما جعل بعض الناس يظنون أنه فارسي الأصل، لكن الهمذاني يوضح نسبه العربي إذ يقول في إحدى رسائله الموجهة إلى الفضل بن أحمد الإسفرائيني: «اسمي أحمد، وهمدان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد».
يرجح مؤرخو الأدب أن الهمذاني أملى مقاماته في نيسابور وقد ألفها لأمير سجستان خلف بن أحمد وخصه بست مقامات منها في مدحه. وقد وصف الهمذاني مقاماته بأنها «تذوب ظرفاً وتقطر حسناً».
جاء في رسالة كتبها الهمذاني للخوارزمي بعد أن ناظره، إنه- أي الهمذاني- قد كتب أربعمئة مقامة، إلا أنه لم يصلنا منها سوى اثنتين وخمسين مقامة. ومن المؤسف أن المقامات التي وصلتنا ناقصة، فمحقق المقامات الشيخ محمد عبده يعترف في مقدمته لطبعتها الوحيدة التي كتبها عقب عودته من باريس عام 1888 بأنها تحتوي على «ما يستحي الأديب من قراءته ويخجل مثلي من شرح عبارته، ولا يجمل بالسذج أن يستشعروا معناه… وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية، وإغفال بعض جمل من المقامة الرصافية وكلمات من مقامات أخرى».
يرى بعض الدارسين أن الهمذاني تأثر بأحاديث ابن دريد والجاحظ وغيرهما، لكنني أرى أنه طور تجارب من سبقوه وقارب القصة كثيراً في مفهومها المعاصر كما في «المقامة المضيرية».
لمقامة الهمذاني أسلوبها الخاص إذ «تتحكم فيها الصنعة ويقيدها فن البديع ولاسيما السجع والجناس» كما يقول مازن المبارك. وغالباً ما يختمها الهمذاني بأبيات من الشعر تلخص معناها.
تمتاز مقامات الهمذاني بقربها من حياة الناس العاديين، فبطلها ابن هشام يروي لنا المقالب التي يدبرها له المتشرد المتأدب، النصاب أبو الفتح السكندري وهو يجول بنا في المجتمع البغدادي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، الذي كان العصر الذهبي للحضارة العربية، فيعطينا فكرة عن مجالس أهل العلم والأدب، ومجالس أهل الشراب والطرب، كما يعرفنا على الوعاظ الشعبيين، ويجول بنا «في المساجد والأسواق والدور والحمامات والحوانيت والمطاعم والحانات».
روى ابن خلكان: « أنه لما مات الهمذاني عجلوا بدفنه، فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، ونبش عليه فإذا هو قابض على لحيته ميت من هول القبر». والشيء المذهل أن الهمذاني تحدث في إحدى مقاماته عن رجل في قافلة أصيب بسكتة زائفة وظن كل من معه أنه مات، لكن رئيس القافلة منعهم من دفنه وضربه حتى استعاد وعيه!
من المعروف أن الإنكليز يقرؤون كتابات أبي الأدب الإنكليزي جيوفري تشوسر الذي توفي عام 1400م. ، أي بعد الهمذاني بأربعة قرون، مترجمة إلى اللغة الإنكليزية المعاصرة. وأنا أطالب المعنيين بالتراث والمستقبل أن يبادروا لتحقيق طبعة جديدة كاملة من مقامات الهمذاني، مترجمة من العربية القديمة إلى العربية الحديثة، فلدى الهمذاني ما يقوله لأبناء الحاضر والمستقبل.