من دفتر الوطن

جبهة الروح

حسن م. يوسف

 

«اذهب إلى حيث تصدح الموسيقا فالأشرار لا يحبونها».
لست أذكر من الذي زود ابنه بهذه النصيحة، إلا أنني في كل يوم أزداد اقتناعاً بصحتها. فالفن هو جبهة الروح، وحال الفنون، وعلى رأسها الموسيقا، تعبر بدقة عن حقيقة موازين الصراع بين الأخيار والأشرار!
خلال الأسبوع الماضي شَهِدتُ في دار الأوبرا بدمشق افتتاح مسرحية «الطريق إلى الشمس» التي قاد خلالها المخرج المبدع ممدوح الأطرش جيشاً من الفنانين والفنيين يبلغ عديده أكثر من مئتين وثلاثين شخصاً، قدم من خلالهم فرجة تبهج العين وتطرب الأذن وترتقي بالفكر والروح، معيدة للإنتاج المسرحي الضخم ألقه وحضوره رغم أنف الظلاميين وحربهم المعربدة وتهديداتهم. فقد نجح الأطرش في قيادة هذا الجيش الإبداعي لخلق فرجة مسرحية سلسة، أبدع لوحاتها الراقصة معتز ملاطيلي، بالاستناد إلى نص وأشعار كفاح الخوص الذي تألق في دور الراوي، وموسيقا المبدع الطاهر مامللي، وأداء المبدعة نورا رحال.
يجسد العرض من خلال لوحاته الغنائية الاستعراضية نضال الشعب العربي السوري. منذ أيام الاحتلال العثماني مرورا بالاحتلال الفرنسي وانتهاء بالحرب الحالية، وقد جاء ظرف العرض ليؤكد مقولة العمل، إذ جسد الجمهور الذي اكتظت به دار الأوبرا، رغم أصوات الحرب التي تسمع من بعيد، أن الشعب السوري الذي استطاع أن يصمد وينتصر سابقا في معارك الدفاع عن استقلاله، ما يزال مؤهلاً للنصر ومنذوراً لقيم الحق والخير والجمال!
في اليوم التالي أكرمني المخرج الرائع عبد اللطيف عبد الحميد بأن رتب لي عرضاً خاصاً لفيلمه الأخير «العاشق» الذي تعذر عليَّ حضور عرض افتتاحه.
ليس سراً أنني أعرف المخرج والكاتب والممثل المبدع عبد اللطيف عبد الحميد قبل أن يكتب السطر الأول في فيلمه الأول؛ «ليالي ابن آوى»، صحيح أن عبد اللطيف لم يغادر ضفتي روحه يوما، غير أن نهره الذي كان يتدفق هادراً جارفاً معه تراب المنحدرات وحجارتها وحصاها، أصبح الآن أكثر عمقاً وغزارة وهدوءاً.
في «العاشق» يدعو عبد اللطيف عبد الحميد لتحقيق الألفة بين البشر وكل الكائنات الحية. وهو يقدم فيلمه بمخططين ويتنقل فيه مكانياً، بين القرية واللاذقية ودمشق، وزمنياً بين الطفولة والمراهقة والشباب، صحيح أن عبد اللطيف استخدم هذا التكنيك في عدد من أفلامه، لكن فيلم «العاشق» يمتاز، ربما بفضل مونتاجه المحكم، على كل الأفلام التي شاهدتها من هذا النوع، بأن بنيته الروائية المركبة لم تفقده شيئاً من سلاسته وعذوبته ووضوحه! وقد عزز ذلك أداء الفنانين المتألقين عبد المنعم عمايري وديمة قندلفت وفادي صبيح، والحق أن أداء عبد اللطيف لدور الأب اتسم برهافة وعمق غير مسبوقين، كما أضاءت موسيقا عصام رافع أعماق الشخصيات والأحداث بمعلمية لا تخفى!
لست هنا بصدد تلخيص الفيلم ولا تقديم دراسة نقدية عنه، إلا أنني أود أن ألفت عنايتكم إلى أن هذا الفيلم لا يشكل صرخة احتجاج قوية ضد النظام التعليمي التلقيني القمعي فحسب، بل إنه، في مآله الأخير، يُحَمِّل هذا النمط التعليمي العقيم مسؤولية اللحظة المتشظية التي تعصف بنا.
الطريف في الأمر هو أن عبد اللطيف عبد الحميد مرر في فيلمه نقداً لنقاد السينما، فأثناء توجه بطل الفيلم، المخرج مراد، بسيارة المؤسسة إلى قسم المونتاج، مع حبيبته، يتوقف السائق لشراء زجاجة ماء، فيقترب شخص من المخرج ويقول له «أنا شفت مخرجين جحوش كتير، لكن أجحش منك ما شفت! حيوان تافه» ثم يصفعه بقفا يده ويمضي، وبعد خطوتين ينكفئ نحوه ويبصق عليه! تسأل الفتاة المندهشة حبيبها المخرج عن ذلك الشخص ولم صفعه؟ فيقول: «لا أعرفّ! يبدو أن هذا شكل من أشكال النقد السينمائي في بلدنا».
ما أبهجني وأحزنني هو أن هذا الفيلم الرائع انطوى على تحية غير مباشرة للفنان سمير الزوزو الذي رحل عنا العام الماضي وكان قبل عشرين عاماً قد أحيا أغنية «يا محلا الفسحة» عندما غناها في مسلسل «نهاية رجل شجاع».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن