سورية

بمناسبة الذكرى السنوية الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران … خصائص العلاقات الإيرانية السورية 

| أبو الفضل صالحي نيا

في هذا العام 2019 نحن على موعد مع بلوغ ذكرى انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عامها الأربعين في الحادي عشر من شهر شباط لتقفَ شامخة تعلن تحدّيها لمن أراد لها الانهيار.
حدّد البعض سقوفاً زمنيةً لبقاء الثورة واستمراريتها، فمنهم من تكهّن مدة شهر واحد، إلى شهرين، ثمّ ستة أشهر، أو سنة واحدة، وتكرّرت هذه المهل، إلا أنه لم يتحقق أي منها إلى الآن، فديمومة الثورة كانت وما زالت مرهونة بقوّتها التي تستمدها من الشعب. ونحن على أعتاب احتفالنا بالذكرى الأربعين في هذا العام نلحظ إخفاق آخر لسقف زمني تم تحديده من الرئيس الأميركي وزبانية إدارته أمثال «جون بولتون»، حيث تبجحوا بألا يسمحوا لإيران بالاحتفال بالذكرى الأربعين لانتصار ثورتها وأكدوا أنها لن تبلغها، تصريحات وتمنيات كهذه إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على جهلهم وعدم معرفتهم حقيقة مصدر وقوة الثورة وعناصر حيويتها، أيضاً تدّل على مدى استيائهم مما حققته الثورة الإسلامية من إنجازات بمعزل عن هيمنتهم وعنجهيتهم.
الثورة الإسلامية في العام 1979 انتصرت في منعطف تاريخي مهم للمنطقة؛ في وقت فاجأ «أنور السادات» شعوب المنطقة ودولها بالسفر إلى الكيان الصهيوني وتوقيعه معاهدة السلام (الاستسلام) «كامب ديفيد» مُخرجاً مصر من جبهة المواجهة، مُحدثاً خللاً في توازنات المنطقة السياسية والأمنية والعسكرية، حيث كان الحديث آنذاك عن تشكيل حلف إستراتيجي قوامه (إسرائيل، مصر، إيران) وكان لهذا الترتيب الجديد للمنطقة تداعيات مقلقة لمصير المنطقة وخاصة مستقبل القضية الفلسطينية. وقف الرئيس «حافظ الأسد» بعد رحيل عبد الناصر في الساحة وحيداً برؤيته وموقفه وهدفه حيث تخلى قادة دول المنطقة عن إستراتيجية المواجهة، لكن سرعان ما وجد حليفه الإستراتيجي بشكل مفاجئ بعدما تحوّل من حليف للكيان الصهيوني إلى أكبر داعم ومناصر للقضية الفلسطينية. إنها الثورة الإسلامية في إيران التي أتت بنظام سياسي جديد على نقيضٍ تام مع سياسات النظام الملكي وتحالفاته وصداقاته وعداواته، أنها الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أضحت عدوّاً للكيان الغاصب بعدما كانت الصديق الأقرب إليه في المنطقة ؛ النظام الجديد طرد الصهاينة، أغلق سفارتهم في طهران، حوّلها إلى أول سفارة لفلسطين في العالم، أعلن وقوفه مع دول وشعوب المنطقة في قضاياها المشروعة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. في خضم هذه التحولات ثمّن الرئيس الراحل حافظ الأسد قيمة هذا الحدث السياسي المهم وما يمكن له أن يقدّم لصالح القضايا العربية فبادر إلى تأسيس علاقات إستراتيجية معه داعياً بقية الدول العربية لتخطو بذات الاتجاه، معلناً موقفه بثقة وبيقين بأنه: «في إيران كان يقوم حكم ديكتاتوري إمبراطوري معادٍ للأمة العربية متعاون مع إسرائيل يشكل قاعدة عسكرية وسياسية عملاقة في هذه المنطقة الإستراتيجية تعمل بجدّ ونشاط لتنفيذ مخططات الامبريالية العالمية، حكم دكتاتوري إمبراطوري له أطماع توسعية، مما جعله يشكل خطراً دائماً مستمراً متزايداً على الأمة العربية وعلى الوطن العربي. هكذا كان الوضع في إيران وجاءت ثورة شعبية تحت شعار الإسلام في إيران. جاءت هذه الثورة لتقلب الأمور رأساً على عقب… فتطيح بالشاه وتلغي الارتباطات الأجنبية الامبريالية وتلغي القواعد العسكرية الأجنبية… وتقطع كل علاقة لها مع إسرائيل وتعلن تبنيها الكامل لقضية القدس وفلسطين والأراضي العربية المحتلة، وترفع شعار التحرير الكامل للقدس وفلسطين والأراضي المحتلة، وتبعث هذه الثورة انعكاسات كبيرة ايجابية على مجمل حركة النضال إقليمياً وعالمياً وتدخل هذه الثورة تعديلات مهمة على التوازن الإستراتيجي بكل ما تعنيه كلمة إستراتيجي… هكذا كان الوضع في إيران وهكذا أصبح الوضع في إيران.. فهل يعقل بعد هذا إلا أن نفرح بانتصار هذه الثورة؟ وهل يعقل بعد هذا إلا أن نحرص على استمرار هذه الثورة؟ في ضوء هذا الفهم اعتبرت الجماهير العربية انتصار الثورة الشعبية في إيران انتصاراً لها.
وانطلاقاً من سياستنا المبدئية أيضاً حرصنا على إرساء أساس متين لأوثق علاقات الصداقة والتعاون مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ففي ذلك مصلحة وفائدة لشعبينا وللمنطقة التي نحرص على أن تكون خيراتها وثرواتها لأبناء هذه المنطقة يفيضون منها على البشرية وأن نبعد عنها كل تدخل أجنبي يريد أصحابه سوءاً بها».
دعونا نوضّح كيف كانت سياسات إيران وعلاقاتها ومواقفها ليتبيّن بعدها مدى صحة موقف الرئيس الراحل. في عام 1949م اعترف النظام الملكي البائد بالكيان الصهيوني كأمرٍ واقع، مما أثار حفيظة العلماء والشعب الإيراني، فقامت في العام 1951حكومة «الدكتور مصدّق» -المناصرة للشعب- بإلغاء الاعترا..ف ولكن بدعم أميركي عبر انقلاب مدبّر تمت الإطاحة بحكومة «الدكتور مصدّق»، عاد بعدها شاه إيران من منفاه في إيطاليا إلى البلاد وقرّر إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني وتوسيعها في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية، حيث كان آنذاك «بن غوريون» أوّل رئيس وزراء في الكيان الصهيوني وصاحب مشروع «محاور الجوار» يسعى إلى تأسيس علاقات مع دول جوار الدول العربية خاصة تركيا وإيران مما يخرج إسرائيل من عزلتها والحصار المفروض عليها من قبل الدول العربية. أعلن الشاه في لقاء صحفي مع فايننشال تايمز في 3 حزيران 1969م أنّ «إيران تعترف بحق إسرائيل في الوجود والعلاقات مع إسرائيل في تحسّن في مجالات كثيرة». وفي شباط 1973 أرسل ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي آنذاك رسالة إلى الكونغرس حول السياسة الخارجية الأميركية، كتب فيها: «منطقة الشرق الأوسط أحد أصعب الاختبارات لأميركا. إيران وإسرائيل بسبب امتلاكهما الإمكانات العسكرية والاقتصادية يستطيعان ضمان أمن المنطقة وعلى هذا أقترح تقديم السلاح اللازم بأنواعه إلى إيران وإسرائيل». «أوري لوبراني» سفير إسرائيل في طهران من 1973 إلى 1979صرّح بأنه خلال الـ20 سنة الماضية (آنذاك) أكثر الرؤساء الإسرائيليين التقوا بالشاه ومنهم بن غوريون وإسحاق رابين وشمعون بيريز. كتبت صحيفة «جيروزاليم بوست» في تلك الفترة أن لإسرائيل منافع إستراتيجية في إيران.
وعلى هذا الأساس تعمّقت آنذاك العلاقات الإيرانية الإسرائيلية في جوانبها المختلفة ومن جملتها العلاقات العسكرية. فحسب الوثائق الموجودة تم عقد عدّة اتفاقيات بين إيران وإسرائيل بهدف التنسيق والتعاون بين جيشي البلدين منها:
– اتفاقية ناويران سنة 1969م حول تسليح جيش إيران بالأجهزة الالكترونية وتدريب الجنود والضباط الإيرانيين بالسلاح الإلكتروني.
– اتفاقية في مجال سلاح الجو حول التنسيق بين القوة الجوية في البلدين وتدريب الضباط الإيرانيين والإسرائيليين، وحسب هذا الاتفاق كان يحقّ لإسرائيل استعمال المطارات وأجهزة الرادار الإيرانية.
– اتفاقية تدريب الجيش الإيراني للحرب على الدول العربية تنص على تهيئة جيش إيران عن طريق تعليم الإستراتيجية الحربية للعرب وتكتيكاتهم الحربية.
– اتفاقية شراء صواريخ أرض- أرض مداها 450 كيلومتراً مجهّزة برأس غير نووي يزن 350 باونداً من إسرائيل بقيمة 2.1 مليار دولار، وأيضاً اتفاقية شراء هاون من إسرائيل واتفاقية إصلاح المقاتلات الإيرانية في إسرائيل.
كما وثّقت الصحيفة السويدية الرسمية «باري ماتش» الصادرة بتاريخ 23/1/1975 بوجود 15000 عسكري إيراني في إسرائيل؛ حيث يتم تدريبهم. وأيضاً كتبت المجلّة في تموز 1967 بأنه خلال حرب الأيام الستّة كانت المقاتلات الأميركية تحط في مطارات إيران، وبعد تلوينها ورسم نجم داوود عليها كانت تنتقل إلى إسرائيل.
وفي جانب آخر من التعاون الأمني والاستخباراتي وقتئذ، كانت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الصهيونية ثالث أنشط الأجهزة الأجنبية في إيران بعد الأجهزة الأميركية والبريطانية.
– تم تأسيس جهاز الأمن الإيراني (سافاك) على شاكلة جهاز الأمن الإسرائيلي (شين بت) وكانت إسرائيل حينها تملك ثلاثة قواعد في إيران وهي قاعدة «أهواز» وقاعدة «ايلام» وقاعدة «كردستان» وكلها في المناطق الغربية لإيران والمحاذية للعراق.
هذه القواعد كانت تعمل لاستخدام العملاء للنشاط في العراق ودول الجوار العربي لإيران، وحسب الوثائق استطاع الصهاينة اصطياد عملاء من العراق والكويت والبحرين والإمارات والسعودية حيث كانت تقِّدم نسخة من التقارير إلى الإدارة الثانية في سافاك وترسل نسخة إلى إسرائيل فوراً. في سنة 1967 أعلنت إسرائيل استغنائها عن هذه القواعد فتم إغلاقها واستمرت إسرائيل في إدارة شبكة عملائها البالغ عددهم 300 عميل مباشرة من إسرائيل.
حسب الوثائق الموجودة، كان هناك مشروع معروف بـ(مشروع الوردة) أو (عملية الوردة) على أساسه تفاوض «أوري لوبراني» سفير إسرائيل في طهران آنذاك مع رئيس جهاز الأمن الإيراني (سافاك)، وأعلن عن استعداد الكيان الصهيوني للتعاون النووي مع إيران وأكد رأي إسرائيل بضرورة تسليح إيران بالسلاح النووي وقال في هذا اللقاء، نحن مستعدون للتعاون النووي مع إيران في كل الجوانب، وإذا أردتم بإمكاننا إنتاج السلاح النووي لكم لأن إنتاج يورانيوم 238 من يورانيوم 235 لتوليد السلاح النووي عمل سهل جداً في إسرائيل، بعد هذه المرحلة لن يكون إنتاج السلاح النووي عملاً مهماً.
– وفي ربيع 1977م وقّع «شمعون بيريز» وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك اتفاقية للتعاون مع إيران في برنامج الصاروخ الباليستي النووي تنصّ على تأمين الميزانية اللازمة بمقدار مليار دولار من جانب إيران وإعطاء مطارٍ وقاعدة لإطلاق واختبار الصواريخ بعيد المدى لإسرائيل.
العلاقات الإيرانية الصهيونية كانت أوسع وأعمق بكثير مما ذكر ولا يمكن تناولها في مقالة واحدة ولكن من قراءة هذا الجزء اليسير يمكن لنا أن نكشف مدى تشابك المصالح بين هذين النظامين العدوين للعرب. فماذا كان مستقبل المنطقة والقضية الفلسطينية لو استمر حكم الشاه في إيران؟
مما ذكرناه يمكن تفسير الهدف من العلاقات بين الشاه والكيان الصهيوني بأن هناك خطة إستراتيجية تقتضي بالنهوض بإيران كقوة إقليمية نووية إلى جانب إسرائيل كداعم اقتصادي وعسكري وسياسي للكيان الصهيوني.
استطاعت الثورة الإسلامية بانتصارها إزالة هذا الخطر الذي كان يهدد أساس القضية الفلسطينية وجعلت دعم الفلسطينيين في نضالهم ضد الصهاينة، أساس سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإستراتيجية والمعلنة، وهذا الواقع أصبح أساساً لإقامة علاقات إستراتيجية بين الجمهورية العربية سورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بقراءة حكيمة من الرئيس الراحل لسياسات وأهداف ومواقف هذا النظام المولود من رحم الثورة الإسلامية في إيران، وما حدث في المنطقة في ما بعد وخلال أربعة عقود أثبت صوابية موقف الرئيس الراحل من الثورة الإسلامية، حيث قدّمت إيران وسورية نموذجاً فريداً في الدبلوماسية والعلاقات السياسية.
هذه العلاقات تتمتع بمواصفات فريدة قلّما شاهدناها في عالم الدبلوماسية حيث لم تبن هذه العلاقات سعياً وراء مصالح سياسية أو اقتصادية أو عسكرية مؤقتة فحسب؛ بل كانت تهدف إلى بناء علاقات إستراتيجية شاملة تتمتع بروح أخوية لصالح الجانبين ولخدمة مصالح الأمة، فالعلاقات بين إيران وسورية بعد انتصار الثورة الإسلامية وخلال أربعة عقود مضت اتّسمت بالصدق والثقة وعدم فرض خيارات من جانب علی حساب جانب آخر، إيران وسورية كانتا وما زالتا صادقتين مع بعضهما في علاقاتهما، هذه الصفة دعّمتها الثقة بينهما، خلال الأربعين سنة الماضية، فلم يخشَ أحدهما الآخر من علاقاته السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية مع أي دولة في العالم، ولم يفرض وحتّى لم يطلب أي منهما موقفاً محدداً في موضوع محدّد وترك الخيار لشريكه في العلاقات أن يختار أي موقف في أي موضوع حسب ما يراه مناسباً والأمثلة عديدة لهذا الواقع في العلاقات السورية الإيرانية. العلاقات الإيرانية السورية تقدم أنموذجاً في عالم العلاقات الدولية قلّ نظيرها، علاقات مبنيّة علی الصدق والثقة والحرية لأخذ المواقف والقرارات السيادية، وهذا هو السّر في ديمومة ومتانة العلاقات الإيرانية السورية.
هذا الواقع اليوم تدعمه قراءة الرئيس بشار الأسد لهذه العلاقات حيث قبل فترة وفي لقاء برئيس لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي أكّد بأن ((العلاقة بين دمشق وطهران قامت منذ انطلاقتها على المبادئ والأخلاق واحترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها ورسم مستقبلها بعيداً عن أي تدخلات خارجية وهذا النهج ساهم في تثبيت استقلالية البلدين، مشدداً ضرورة اعتماد هذه العلاقة كأساس لخلق شبكة أكبر من العلاقات خاصة مع الدول التي تتفق مع سورية وإيران في نهجهما هذا».
لا شكّ علاقات بهذه المواصفات تستمر وتتطور لصالح البلدين ولصالح المنطقة رغم كل الضغوطات والإغراءات والمؤامرات كما أثبت الواقع خلال أربعة عقود ماضية.
في علاقات كهذه لا خوف على المصلحة الوطنية ولا مكان للكلام عن مصادرة الإرادة الوطنية لطرفي العلاقة، وهكذا قدّمت إيران وسورية أنموذجاً فريداً إلى عالم العلاقات الدولية.

المستشار الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سورية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن