علاء الدين الأيوبي… رجل من مقام العشق
إسماعيل مروة
غاب صوت آخر عن إعلامنا، غاب علاء الدين الأيوبي الصديق صاحب الصوت المميز، وصاحب الخبرات المتعددة والمتنوعة، غاب ذلك الإعلامي الذي اختط لنفسه منهجاً خاصاً في التقديم والتلوين الصوتي والعبارات المنتقاة، غاب ذلك الرجل الفصيح القريب من السمع والقلب، غاب علاء الدين الأيوبي الذي كان يستفتح نشرات الأخبار وفتراته بقوله «سلام من الله عليكم ورحمة من لدنه وبركات» فتحولت عبارته من خانة الانتقاد والتندر إلى خانة التقليد، فصار عدد من التالين له يرددها، ولم يدر الجميع أن علاء أعاد لفظاً كان مهجوراً أو كاد للتداول، وأضاف إلى معجم المستمع عبارة وتركيباً من الجدّة بمكان.
علاء الدين، أبو النصر، أستاذ علاء، ناده بما شئت تستقبلك أساريره المنفرجة مهما كان متعباً أو مرهقاً، لا يقطع خطوات من دون أن يستوقفه أحد لسؤال أو استفسار، مع الجميع كان علاء الدين طيباً ومحبوباً، يدرك حقيقة المشاعر التي تقابله فيقابلها بابتسامته وغفرانه الذي قد يتمكن من تغيير الحقد إلى ودّ ولو ظاهرياً.
عندما يوصف علاء الدين بالإعلامي القدير أو الكبير أو الخبير، فهذا الوصف معه ليس مجانباً، بل أزعم أنه ليس كافياً أمام ما يملك، وكثيرون لمسوا خبرته وجدارته، والأكثر لم يصلوا إلى كنه ما يحمل هذا الإعلامي، وهو من القلة النادرة الذين ظلمهم لقب المذيع، ومن يتتبع سيرته المهنية يقف عند علاء الدين الأيوبي الإخباري المحترف، القادر على الارتجال المنهجي ساعات طويلة بما ملك من خبرة ومخزون ومعجم لغوي يفيض كلما أخذ منه، وكثيرة هي المواقف التي غطاها علاء بحرفيه عالية، فلم نسمع منه حشواً أو كلاماً مكروراً، بل كان مجدداً على الدوام.
وهو من الذين إذا وقفوا أمام مناسبة دينية يمتح من مخزونه، فتنثال الآيات والأحاديث على لسانه، حتى ليظن السامع أن المتحدث وقف حياته على الجوانب الدينية البحتة، وخاصة مع ترافق أدائه ونبرته اللذين يسبغان عليه مزيداً من الهيبة والوقار، ألم نسمعه في كل رمضان يخاطبنا من «مائدة السحر» من الأموي، ولم يأنف مرة وهو الخبير القديم من أن يكون مع عربة النقل على السحور، وهو القادر على تكليف سواه، فبقي حتى آخر رمضان يستأثر بأيام ليطل بها على مائدته في السحر الكريم، بل في أكثر من رمضان كان وحده طوال أيام الشهر يقدم معلومات وأحاديث عن الحب والود ليزيد من أواصر الحب بين الناس، ولا يكتفي بأن يكون مجرد مذيع ربط ونقل، وقد حدثته بأكثر من مرة بأن إيمانياته ووجدانياته التي يقدمها تستحق أن تجمع لتكون بين أيدي القراء، لكنه كان زاهداً بأن يفعل، ويقول: كله في الكتب، وأنا أقوله من ذاكرتي وحافظتي، وربما كان اندفاعه لما يبتعد عنه الآخرون وراء إسباغ الجانب الديني على شخصه، مع أن ما قدمه في الأخبار والمنوعات أكثر بكثير.
غاب علاء الأيوبي الخبير بالموسيقا والمقامات والنغمات والأوزان، وكانت معلوماته محط اهتمام المشاهد والمستمع، وقد استطاع أن يغرس في المتلقي فكرة النغمات، فهذه المدائح موزعة على مقاماتها، والآذان على نغماته، ولكل أذان نغمته ولكل وقت نغمة خاصة، فكان يرصد البراعة بنفسه، ويشير إلى النشاز بغاية الأدب، بينما لا نسمع من غيره سوى عبارة: الله عندما يأتي النغم.
علاء كان خبيراً مهماً في النغم والموسيقا والمقام، وبغيابه ضاعت ثروة إعلامية لا تكتفي بالأداء والترديد، بل تأخذ من خبرة حفرت في روحه وذاكرته.
ومع علاء في (نور الشام) رأينا رؤية واسعة في الموضوعات والمعالجات، فقد استفاد علاء من التجارب السابقة كلها ليقدم رؤية مختلفة تدخل في جوهر العقيدة والعلاقات بين الناس من مختلف الشرائع والمذاهب والطوائف، إضافة إلى أنه أعطى القناة بعداً ثقافياً وحضارياً مميزاً.
وعلاء كان واثقاً من قدراته وطاقاته، وفياً لأصدقائه، مستثمراً لطاقاتهم وخبراتهم، ومع توليه (نور الشام) جاء بالأساتذة الذين يملكون خبرات، واستثمر حضورهم وخبراتهم في القناة من دون أن يمنعه من ذلك معاصرة أو غيرة أو منافسة… وكلنا يعلم أن عدداً من هؤلاء الأساتذة كاد يصل إلى سن التقاعد، ولا يزال بعيداً عن الضوء، فكانت مغامرة علاء تصب في مصلحة الإعلام، والقناة حين اختار الأساتذة المتمكنين الخبراء، وأعطاهم المجال واسعاً ليكونوا محاورين ومعدين ومن علامات القناة.
على مدخل الهيئة العامة التقيت أبا النصر آخر مرة، وكان حاراً كعادته، وعلامات التعب بادية عليه، وأذكر أنني كنت ضيفاً في سهرات رمضان على برامجها، وكان علاء واقفاً وساهراً حتى مطلع الفجر مع المعدين والمقدمين والكادر كله، لذلك كان مرهقاً دوماً، لأنه لم يمارس الإدارة بمفهوم الإدارة، وفي الأيام الأخيرة كنت عند أحدهم، وسمعته يطلب أن يكون لأحد العمال البسطاء مقابل عمله، ولكن اسمه سقط سهواً من المعدين، فيبادر علاء بإعداد جداول ملحقة حتى لا يظلم هذا العامل البسيط!
رافق علاء وزارة الداخلية والشرطة لسنوات ببرنامجه، فصارت عباراته محفوظة عند المشاهد «أنا مظلوم يا سيدي- أنا نادم يا سيدي» وكلنا يعلم أن هذا البرنامج حظي بأكبر نسبة مشاهدة رغم وعظيته بسبب براعة علاء وقدراته في أداء دوره، وفي استنطاق من لم يرد أن ينطق.
الخاتمة لابد أن تكون، وها هو علاء يسافر على جناح خفقة قلب وهنت، يغادر بسرعة من دون أن يمتع أحباءه وأصدقاءه بوداعه، لكن الجميع الذين هزتهم صاعقة الرحيل الخاطف أجمعوا أنه الإعلامي الكبير والقدير.
برحيلك أبا النصر فقد إعلامنا صوتاً مميزاً وخبيراً مهماً، ورجلاً دينامياً قادراً على استيعاب كل ما يعرض له، فإلى إعلامنا الذي لم يعرف مقدار فاجعته وإلى أسرتك كل العزاء برحيل حتمي في رحلة الأبدية.