قيس سلمان: جدلية القبح والجمال تعري وحشية العالم
مها محفوض محمد
قد لا تعكس لوحاته الذائقة الجمالية العميقة الكامنة في وداعة عينيه ورقة ابتسامته، إنما حساسيته الوافية ورؤيته العميقة لظواهر العنف والقبح وتناقض القيم في المجتمع التي طالما عبر عنها ومثلت سر إبداعه منذ بدء مسيرته في عالم الفن التشكيلي عام 2002 متابعاً تقديم أعماله التي توثق لما تشهده سورية اليوم من بشاعة حرب نرى صورها في لوحاته المعبرة عن وحشية أولئك الذين يستمتعون بالقتل والتدمير.
هو الفنان التشكيلي قيس سلمان «المولود في طرطوس عام 1976» الذي يحقق اليوم حضوراً مميزاً بين جيل الشباب المغاير في مشهد الفن السوري، لمع اسمه في الملتقيات العالمية، قدمته صحيفة وول ستريت الأميركية كشخصية يجب متابعتها في مشهد الفن المعاصر الشرق أوسطي، اختارته مجلة الأعمال «أريبيان بزنس» التي تصدر باللغتين العربية والانكليزية- من بين مئة شخصية عربية مؤثرة تحت سن الأربعين للعام 2015 لإبداعه في فن يحاكي شريحة واسعة ممن يتذوقون الفن التشكيلي في العالم.
شارك في عدد كبير من المعارض في سورية والعالم العربي كما عرضت لوحاته في نيويورك وأصبحت مفضلة لدى مقتني اللوحات، وكان آخر معرض له في غاليري أيام في بيروت حمل عنوان «المجتمع المتمدن» وفيه يصل قيس سلمان إلى جوهر التعبير عن الأحاسيس والانفعالات الداخلية في لوحاته التي تميزت بالقامات البشرية الممسوخة واختزال جسد المرأة وتعريتها فهو يجنح نحو مظاهر التغييب الكامل لملامح الوجوه الأنثوية الجميلة كما يسعى قبل أي شيء لكسر مرتكزات الشكل المألوف في اللوحة التقليدية فهو عن قصد لا يهتم بالتشريح الجمالي للجسد الأنثوي ولا بأبعاد المنظور، وتبرز اللوحة عنده في أحيان كثيرة كهاجس انفعالي يمنح تجربته المزيد من المغامرة والجرأة والمخاطرة ولاسيما حين ينشر اللون بتلقائية زائدة كأنه يريد أن يقول لنا إن الفنان لا يمكن أن يتملص من ذاته لأن الفن هو جزء أساسي من حياته، ولهذا لا يمكن وضع حدود بين التجريد الانفعالي الذي يمارسه والإحساس بأزمة الحروب والمجازر.
إنه يقدم الجسد والوجه والقناع بمزيد من الجرأة والحرية في معالجة الخطوط والألوان وهو في ذلك يؤكد علاقته الوطيدة بالثقافة البصرية الحديثة التي جعلته يشق طريقه نحو ملامح تحوير الوجوه والمبالغة في تحريفها حتى إن لوحاته تصدم المشاهد العادي الذي يفتقر إلى ثقافة بصرية تجعله قادراً على استيعاب هذه الوجوه والأشكال الإنسانية الخارجة عن المألوف والبعيدة كل البعد عن الذوق العام والمظاهر الاستهلاكية.
لقد جاءت هذه المبالغة التعبيرية في لوحاته بشكل عفوي بعد سلسلة تجاربه المتواصلة التي زادت قناعته بالبحث عن أسلوب أكثر ارتباطاً بمشاعر القلق والاضطراب الموجود في عالم اليوم الذي يروج للقتل والتدمير والإرهاب، وتحمل لوحات قيس سلمان الأخيرة دلالات تعبيرية واضحة ضد أعداء الإنسانية الذين جاؤوا لتدمير الحضارات التي تعاقبت على الأرض العربية منذ آلاف السنين ويفضح فيها التطرف الإيديولوجي والشر الإنساني إذ تظهر تأثيرات هذا الواقع المتفجر بشكل غير مباشر في نسيج لوحاته من خلال اللمسات اللونية المتداخلة مع إحساس داخلي انفعالي يقطف الإيقاع الخارجي المتغلغل في حركة حياتنا الراهنة المشبعة بالصدمات والتوتر والعنف في وقت الحروب المتواصلة من دون نهاية فهو يؤكد في لوحاته الجديدة أن الحالة التعبيرية هي المدخل الحقيقي للتفاعل مع الحياة المضطربة من وقع الحروب التي خلفت مزيداً من السواد في الذاكرة الإنسانية.
ورغم إغراق قيس سلمان لوحاته بمظاهر التحوير والتحريف يستطيع المشاهد أن يرى في بعض اللوحات وجهاً إنسانياً أو مشهداً لموضوع مختصر بأقل إشاراته لدرجة محو كل العناصر غير المفيدة وهذا ما يمنح عمله صفة المختصر المفيد، حيث يغيب الشكل الواقعي تماماً وتبقى إشاراته التي تدل عليه بحركات وضربات ولمسات لونية جريئة تبحث عن صياغة تعبيرية مختصرة ومتقشفة تزيد من ارتباط لوحاته بقلق حياتنا المعاصرة فتصبح اللوحة وكأنها مشروع للتعبير عن تشنجات القلق والاضطراب في عالم اليوم اللإنساني، واللافت أكثر في لوحات هذا الفنان تلك القدرة في إظهار إمكانيات اللون التعبيرية وطاقاته اللامحدودة مبتعداً قدر الإمكان عن التكرارات البصرية الشكلية واللونية حيث تتحول المساحة إلى ما يشبه الغناء اللوني الصاخب الأكثر تمثيلاً لشخصيته وعوالمه الذاتية.
وقد كرس قيس في معرضه الأخير مساره الأسلوبي التعبيري الذي أراده منطلقاً في البحث عن هوية فنية مميزة وهو يستعرض تلك العلاقة الحميمية بين حضور إشارات الشكل وغيابه وبين اللون والوهج والسكون والحركة.
إن أعماله التي يبدو فيها البحث الدائم عن جماليات جديدة في عالم القبح تذكرنا في رمزيتها بأعمال الشاعر الفرنسي الكبير بودلير حين يدل على القبح والشر الكامن في أعماق الناس بطريقة رمزية عبر عنها بصورة الجمال والقبح، فسلط الضوء على الجمال رغم القباحة الموجودة في ذلك العالم، كذلك تمكن الفنان الشاب من تسليط ألوانه الجريئة لتبرز لنا التضاد بين الظلمة والنور وأنه بالرغم من الوجوه القبيحة هناك شيء جميل، إنه يبعث برسالة قوية في زمن يتم فيه اغتيال كل معاني الجمال.
قال عنه ناقد فرنسي: في لوحات هذا الفنان هناك مرآة للجانب المظلم من شخصياتنا وعندما نغوص في لوحاته نغرق في عالم البشاعة لكن بعد الابتعاد عنها ينطبع في ذاكرتنا مشهد جمالي يتجلى في الفكرة أو الرسالة التي يبع ثها إلينا: أن انتبهوا إلى العالم الحالي وإلى الحقيقة التي يجب أن نواجهها فهذا الفنان من الشباب الواعد الذي يمتلك الجرأة ليقول فكرته من خلال لوحاته.