ثقافة وفن

«ومضة عشق».. رسالة محبة إلى روح نذير نبعة … علي مقوص لـ«الوطن»: الشجرة حالة لها علاقة بكينونتنا وثقافتنا وهي ليست رمزاً أكثر مما هي حالة وجدانية … سعد القاسم: اللوحة فيها حالة من الطمأنينة والسكون والسلام والرضا لهذا بقيت موجودة

| سارة سلامة

احتضنت صالة «تجليات» للفنون الجميلة تجربة الفنان التشكيلي علي مقوص، مقدماً مواضيع تمس الإنسان والطبيعة والوجود، في معرض حمل ريحة التراب المبلل بالمطر ورائحة بخور تنبعث من المكان أوحت بها رمزية الشجرة والمزار وازدحام الناس في قدسية تجمعنا لتأدية صلاة إلهية تحييها شجرة تفرد بظلالها على الحاضرين.

فعند مقوص نرى جمال الصوفية في شجرة ترمز للحياة والديمومة وثمار تحمل نجاة لكل شخص فينا، ولم تخل تجربته من القدم والإرث والاحتفاظ بالبيئة الريفية التي تأثر بها فراح ينقلها عبر أزمان لتكون الأساس والمرجع. كما حاول الخروج عن المألوف من خلال الألوان والتجريد مبتعداً عن الواقعية، إلا أننا ما زلنا نرى تلك الروح القديمة تطوف في أعماله. هي لوحات تمثل جسر محبة وتحية للفنان الراحل نذير نبعة أحد علامات الفن التشكيلي السوري المعاصر. حيث ترك له مقوص ومضات عشق لروحه قائلاً: «أواخر السبعينيات كانت بداية تعرفنا إلى نبع.. نبعة! إلى نبع من إنسانية، وملاذ من تفهم واحتضان، هذا النبع كان معلماً وأباً روحياً، لقد كان نذير نبعة فناناً ليس كغيره، منه حملنا قيمه الوجدانية والمعرفية، تعرفنا إلى وعي تشكيلي كان له عميق الأثر في تكوين مفهوم ثقافة اللوحة وفلسفتها لدينا. لم يرحل المعلم بل استحالت روحه لومضات عشق وفن وأثر النبع والشجرة المثقلة بالثمار ولا يزال. كثيراً ما كنت ألوذ به لأعرف أين أضع قدمي، كنت أسافر من اللاذقية إلى دمشق ومن المحطة إلى بيته ومرسمه المفتوحين لطلابه على مدار الوقت، فيشاهد دراساتي وأتلقى ملاحظاته التي لطالما أثرتني، ثم أعود وأنا أشعر أن ثمة تغييرات قد طرأت على رؤيتي للعمل الفني بتأثير من ملاحظاته العميقة. رحل نذير نبعة جسداً إلا أن شعلة روحه ما زالت متقدة، لهذه الشعلة أهدي معرضي».

خصوصية ريفية
وفي حديث خاص لـ«الوطن» قال الفنان علي مقوص: «إن المعرض بمجمله تحية لروح المعلم الكبير نذير نبعة، استاذاً وصديقاً وأباً روحياً نحن تلاميذه. والأعمال حملت بشكل عام خصوصية البيئة التي عشت بها، وهي خصوصية ريفية لها علاقة بالجغرافية التي تكونت بها. ونشاهد عدة مجموعات منها لها علاقة بالطبيعة وأخرى لها علاقة بطقس ملحمي خاص. كما حملت أعماله عام 2015 خصوصية مختلفة، وتميزت تلك الفترة بأعمال ملحمية طقسية لها علاقة بالذاكرة والبعد الملحمي للمنطقة والتراث الملحمي، ولها علاقة بطقس المائدة الوليمة وتوجد تأثيرات من الطبيعة والشجرة، إنها حالة ملحمية لها قدسيتها. كما عملت مجموعة بالحبر الأسود ومجموعة بالألوان، واللون البني الذي يجسد علاقة التربة بالمطر وعلاقة التربة مع الفلاح والضوء والشمس».
وعن رمزية الشجرة عنده بيّن مقوص أن «الشجرة هي حالة لها علاقة بكينونتنا وثقافتنا وبعدنا الوجداني فهي ليست رمزاً أكثر مما هي حالة وجدانية لها عمقها الوجداني. وهناك لوحات تعتمد على المساحة اللونية ولكن معظمها فيها غرافيك الطبيعة الذي نراه في الصخرة أو بجذع شجرة وفي التربة والقش والعشب وأغصان الشجرة. هذه الكثافة الغرافيكية التي توجد في الطبيعة عاشت مع الألوان وعملت مناخاً غرافيكياً تصويرياً وتوليفاً بين الحس التصويري والحس الغرافيكي. هي تجربة أعيشها كفنان تستمر وتأخذ بعض الصيغ المختلفة والتراكمات وهذه التراكمات تنتج مراحل.
وعن العنوان الذي حمله المعرض يقول مقوص: إن «(ومضة عشق) يمثل مناخاً وحباً كبيراً وعشقاً ارتبط بمحبتنا بالعشق الذي نملكه لشخصية نذير نبعة كفنان ومعلم ورسالة محبة إلى روحه».
وعن اللوحة السورية وقدرة الفنانين الشباب في حفظ ذلك الإرث الذي تركه أساتذة كبار أوضح مقوص أن «هناك مجموعة أجيال من الفنانين في سورية يعملون بثقافة وخصوصية وجدية وثقافة اللوحة لدينا هي ثقافة متقدمة وديناميكية ومتحركة ومتطورة باستمرار».

شجرة عشق
وقال الناقد عمار حسن في تعبيره عن مكنونات المعرض أن «العشق سر حقيقتنا يختبئ فينا. يولد معنا، كبذرة حياة. وأكثر من حب! وما إن ترويه شرارة وعي حتى تتفتح هذه الشجرة وتفرد أغصانها إلى خارج الذات، لتنشر هذا السر من جديد ولكن بلمسة روح، لها عرفانيتها ومرجعيات تطوافها المقدس حول السر.! إنها نفحة الإلهي فينا، أن نرى ما بعد المرئي، ثم يصل إليه البعض ليصير مرئياً، ثم يكون اللوحة.
تحريكه عبر اللوحة تأخذ المتلقي إلى حالة من الدوران الروحي التخيلي من خلال الاتصال مع مفهوم الشجرة أو العشق. وهما فينا كبذرة أنثوية مقابلة لوعي مذكر مؤمن بتكامل القطبية. الشجرة هنا هي الذات الأنثوية فينا. الأم تحديداً أو الرحم المتصل بالحب والرحمة وهذا نجده داخل الشجرة في لوحات الفنان علي مقوص، فالأنثى بحقيقتها العارية هي من تتوهج على أغصانها، فلم لا تكون الشجرة هنا هي هذا المشتهى كأنثى وحقيقة وطبيعة؟! نعم هي لوحة تتشكل من البرية والريف ونساء الريف العاملات في الحقول في مصفوفة مقوص الذاكرية والحلمية إلا أن هذه الذاكرة تتحول من الاشتهاء التأملي المنفعل إلى التأمل المشتهى الفاعل، عندما استطاع أن يبلغ هو ولوحته هذا الحد من الدوران والتوهج فكانت شجرة عشق. وهو ما دعاني لعنونة النص بشجرة عشق متصلاً مع اقتراح الفنان أنها ومضات عشق. والحقيقة أيضاً أن ومضات كهذه هي شرارات ما إن تلتقطها عين الوعي حتى يشتعل عشقاً».

خصوصية صوفية
بينما قال الفنان والناقد سعد القاسم إن «تجربة علي مقوص فيها خصوصية صوفية ودائماً ما نرى الأشجار والمزارات التي يرسمها بتفاصيل دقيقة وحميمية ووفيرة وهذا شيء لاقى إعجاباً كبيراً من جمهور الفن التشكيلي والناس الذين حوله. لذلك كان لا بد عليه من بذل الجهد لتغادر هذه المحبة لأن محبة الناس تعتبر مشكلة في بعض الأحيان. وبالفن تحديداً الناس لا تتقبل بأريحية التجديد، فكيف إذا فنان بحث بحكم عاملين: موهبته الحقيقية وجديته بتطوير موهبته وتجاربه وبحثه الجدي في الخروج من دائرة التكرار والتوقع، جعلته يذهب باتجاه اللون أكثر والتجريد وخرج قليلاً خارج إطار الواقعية وفي الاثنتين نجح وما زلنا نرى في المعرض ملامح نحبها للتجربة القديمة أو التجربة الأولى ونرى في الوقت نفسه ملامح جديدة سنحبها كذلك. عموماً المعرض فيه حالة صوفية إذا صح التعبير تميز بها علي. ونشعر أن اللوحة فيها حالة من الطمأنينة والسكون والسلام والرضا بقيت موجودة على الرغم من أنه خرج من موضوعه الأول».
ومسألة الوفاء والتحية لروح نذير نبعة تجلت بشكل غير مباشر وهذا شيء مهم أن «نعرف نذير نبعة كأستاذ ومعلم وفنان، وما يميزه أنه كان حريصاً على خصوصية طلابه ولا يفرض أسلوبه عليهم حتى لا يكونوا نسخاً عنه. ويمتلك قدرة هائلة من الشجاعة والتواضع ليعترف بأعمال فنانين شبان وطلابه. ويملك القدرة والشجاعة والتواضع التي تمكنه من القول إن بعض الأعمال أفضل من أعماله فنذير نبعة ليس فقط كتجربة فنية مهمة لأنها تجربة غنية ومتعددة الأوجه، بل هو حالة إنسانية نادرة ومتميزة، ونرى أنه ترك عند الطلاب الذين درسهم شيئاً في داخلهم ليس ضرورياً أن يظهر في لوحاتهم بشكل مباشر إنما يظهر باستقلالية وخصوصية وحرية كل شخص فيهم».

زحمة بالجماليات
ومن جهته يقول النحات غازي عانا: «إننا ربطنا أعمال الفنان علي مقوص بالشجرة واليوم نرى عملين فيهما الشجرة بشكل واضح. وهو شيء له علاقة بالقديم. كما أنه قام بنقلتين، النقلة الأولى ارتحت لها كثيراً فيها منظر طبيعي وتأثير سطح قوي ومفردات وزحمة بالجماليات. واشتغل على البني والفواتح ودرجات البني ولديه مجموعة أخرى حملت نقلة أقوى. وعلي بمقدرته الكبيرة وخبرته يمتلك أدواته والمواد التي يعمل عليها بشكل كبير.
وهو فنان مثقف جداً ويعرف ماذا يعمل واللوحة هي مشروعه في الحياة. ولا يملك شيئاً آخر لذلك هي مشروعه تماماً. وأرى المعرض من المعارض المهمة الموجودة بدمشق حالياً وليس لأنه علي مقوص ولكن نتحدث عن إنتاج لوحات كبيرة فيها خيارات كثيرة يستطيع الفنان والمواطن العادي والمهتم أن يجد شيئاً يحاكي ثقافته».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن