ثقافة وفن

الحب والكينونة

| إسماعيل مروة

حين يغمرها المطر وهي تلتحف ذاتها، وتسترجع ذكرياتها، وترسم غدها، تصبح أكثر جمالاً هي الكائن والمعشوق والمدينة والنقاء، كل شيء يصبح فيها أكثر جمالاً وأكثر طهراً تحتوي ما لا يحتوى، تتنفس لتحافظ على بقايا لا تكون إلا بها.. يغمرها الماء فتغمره بالحب، يصلها الثلج فتمنحه الطهر الأبدي، ومن بحة صوت، ومن شدو فيروز الشآمي، ومن ندائها على الحبق والمنثور تبدأ حكاية عشق جديدة هي الشام بتفاصيلها ونبلها وبقائها!
حين وحين.. تضج المدائن وتغيب عن الواقع، ووحدها مغمورة بالنبل والبقاء والافتداء، لا تأبه لحاقد أو جاحد، لا يعنيها ما يصل إلى سمعها من عبارات ثناء، ولا يطريها امتداح مادح لجمالها وفتنتها، وتبقى محتفظة بذاتها وألقها للحظة هي العيد ذاته، وهي الفرح ذاته، وهي الصدق الذي تخلى عن كل مكان إلا عنها! ترى كره الكارهين وتسخر، تسمع امتداح الكاذبين، وتشهد أن كذبهم يلتهمهم! هي من يقدّر صدق الحب والغناء، هي من يحدد مصدر ما قاله الشاعر فيها! تلفظ كل لحظة لا تنتمي إليها، فعاشت رائعة أبي خليل (يا طيرة طيري) وخلدت فيروز مع سعيد عقل وعبد الوهاب بـ(مرّ بي) وكانت أنشودة الخلود فيها (شآم أهلوك أحبابي) فرقص معاوية على عرشه، وتباهى الأمويون بملعبهم الذي كان لهم، وهو القادر على حفظ المدينة والانتماء والعرب، جعلوها العرب خلاصة ونقاء، ومنها شعت العروبة، لذلك لا تصيخ السمع لكل ناعق ونادب، فهي المدينة التي لا تحتوى..! هي التي تحتوي محبيها وكارهيها، وهي الجوادة على من أحبها ومن تظاهر بالحب، وهو يمور حقداً وكرهاً.. وحدها الراقية التي لا تمنع أحداً من القول، ولكنها تغربل كل شيء، ويدور الزمن فيها كما تشاء.. تلفظ القصيدة الشوهاء للشاعر الأشوه، وترفض اللحن الراقص الذي يحولها إلى كائن غريب، وتستخرج من ذاتها الألحان الجميلة التي دخلت في جوهرها، ويتناوب المبدعون، وتبقى رائعة أبي خليل القباني صلة الوصل بين الجد والحفيد للوصول إلى شام القداسة والطهر، القباب والمرابع، وكل ما يمكن أن يكون فيها، ولا يكون في سواها، هي مغرورة الروح، ولكن أين من يصل إلى عمق روحها، ويدلف على جسر من اللهفة والحب والحرص إلى جوهرها؟
هذا الدعي قال
وذاك المخبول صرخ
وثالث ملوث تلوّن
وحدها تستلّ من ذاتها سيمفونية البقاء، ونقبل أن تكون صاحبة القطعة الواحدة التي لا تتكرر، لأن مقاسها هو مقاس الحب، فإلى الحب الذي عجزنا عنه جميعنا، ولا يستثنى أحد من أبناء الزمن الأغبر، إليه نتوجه، وبه نلوذ، وحده يحفظ ما تبقى منا، وحده يبقي لنا قبراً وشاهدة فيها، وربما قبة رخامية، ولكن لن يحفظها هي، فهي الحب ومصدره وكينونته.
إلى أهدابها نسعى، حيث جدائل الطهر والنقاء مع مطر يحمل رائحة الأرض، لا عطر فيه ولا زينة سوى حسن شام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن