يعتبر من الجيل الأول الذي أسس للدراما السورية وساهم في تكوين ملامحها وتطويرها … غسان جبري.. كان مجتهداً يبحث عن مسار مختلف مهما تشابهت بعض معالمه أو تعثرت بعض خطواته
| وائل العدس
عاش ستة عقود في العمل الدرامي التلفزيوني المتصل، وقدم خلالها ما يزيد عن خمسين مسلسلاً تلفزيونياً، عدا السهرات. وهو كم كبير تحقق من خلال إنتاجات تلفزيونية تخطت حدود سورية إلى غيرها من المدن والعواصم العربية، حيث أنجز مسلسلات في عمان والكويت والإمارات العربية المتحدة.
يقول عنه محمد منصور في كتابه «دراما التأصيل الفني» الصادر عام 2009 عن دار كنعان للدراسات والنشر إنه استطاع من خلال المناهل الثقافية العديدة التي صاغت تجربتها وشخصيته الفنية، أن يكون اسماً بارزاً في بدايات الدراما التلفزيونية السورية، وأن يقدم لهذه الدراما أعمالاً اكتست اليوم صفة الكلاسيكية، لأنها كانت قادرة على الدوام، أن تمنحنا القدرة على تذوقها مجدداً، والاستمتاع بمضامينها وأفكارها وأشكالها، ضمن الحيز الإنتاجي والتقني الصعب الذي ظهرت فيه وتبلورت من خلاله.
لقد كان غسان جبري أستاذاً من أساتذة الإخراج التلفزيوني داخل الاستديو، وقد شغف إلى حد كبير في اكتشاف إمكانيات العمل المتاحة ضمن جدران ذلك العمل المغلق، وفي إغنائه بجماليات فنية وتعبيرية جعلت منه فضاء مفتوحاً على الحالة الدرامية التي يتفاعل فيها الممثل مع الكلمة والكاميرا والإحساس والفكرة، لقد صنع ريادة موازية لريادة المتميزين من أبناء جيله.. لم يكن تلميذاً يتعلم من زملائه، بل كان مجتهداً يبحث عن مسار مختلف مهما تشابهت بعض معالمه أو تعثرت بعض خطواته.. ولئن ضاعت ملامح هذه الريادة في خضم المقارنات حيناً، أو إهماله لتاريخه حيناً آخر.
إنه المخرج السوري غسان جبري الذي فارق الحياة يوم الخميس الماضي في مسقط رأسه بدمشق عن عمر 86 عاماً متأثراً بمرضه، وهو أحد كبار وأوائل مخرجي الدراما السورية، ويعد من كبار وأوائل مخرجي الدراما السورية، ومن رواد العمل التلفزيوني في سورية وأحد المؤسسين له، ولم يترك مجالاً فنياً إلا وعمل فيه، فأعدّ وقدّم البرامج التلفزيونية وأنتج أوائل المسلسلات.
ويعتبر واحداً من الجيل الأول الذي أسس للدراما السورية وساهم في تكوين ملامحها وتطويرها، وهو ما جعله مواكباً لمسيرة هذه الدراما وعارفاً بواقعها وإنجازاتها وخصوصيتها.
مسيرة غنية
ولد جبري في 3 أيلول من عام 1933 في حي الشعلان في دمشق، وكانت الأسرة قبل ذلك تسكن في بيت الجد في الشاغور (أصبح الآن مطعماً مشهوراً يحمل اسم «بيت جبري»)، ولكن الجد اضطر لبيع البيت لابن عمه بسبب ضائقة مالية.
والده ابن تاجر دمشقي كبير، درس في «كلية سان مارك» في الإسكندرية حيث ولد، فتربى غسان في المدارس الفرنسية هو وإخوته إذ يقول: «كان والدي مولعاً بالثقافة الفرنسية، ويتحدث لغتها كأهلها.. التقى بأمي، البنت الشامية المستورة وتزوجها».
كان جده من كبار تجار القطن، وكان يملك منازل عدة في دمشق، وبيروت، وحيفا والإسكندرية، لكن في عام 1917، أعلن هذا الجد إفلاسه بعدما راهن على انتصار ألمانيا في الحرب، فحول ليراته الذهبية إلى عملة ألمانية.
هكذا، عادت الأسرة إلى دمشق، وعانت بعد ذلك الفقر، لكنها لم تتخل عن طموحاتها في التعليم والانفتاح على الحياة العصرية بكامل تجلياتها في الفن والثقافة والسياسة.
أما الجدة، فقد استشهدت في عام 1936 على أيدي الفرنسيين، حيث اغتيلت لأنها كانت تساعد ثوار الغوطة ضد المستعمر وهي في السادسة والخمسين من عمرها.
الظروف المالية والسياسية التي عصفت بسورية ما بين الحربين، جعلت غسان وإخوته «سبع بنات وثلاثة صبيان» ــ يختارون العلم طريقاً وحيداً للخروج من كل الأزمات.
درس الابتدائي في مدرسة طارق بن زياد في حي المهاجرين، ومدرسة إبراهيم هنانو في منطقة الجسر الأبيض، ومدرسة معاوية في المرجة، ثم انتقل إلى التجهيز الأولى وحصل على الشهادة الثانوية، وبعدها سجل في الجامعة السورية كلية الآداب، ثم انتقل إلى كلية الحقوق، وعُيّن موظفاً في البريد.
ومع انطلاق البث التلفزيوني عام 1960، أدرك هدفه في الحياة: «تعطّل عقلي، أنا خلقت للعمل في هذا المجال، في هذا السحر الذي يسمى التلفزيون».
هكذا، تقدم إلى مسابقة للإخراج في التلفزيون السوري حيث قُبل عام 1961، وأُرسل إلى ألمانيا في دورة تدريبية استمرت ستة أشهر، لكنه قبل العمل في التلفزيون، كان عضواً مؤسساً في «ندوة الفكر والفن» عام 1958 بإدارة رفيق الصبان وعضوية مجموعة من المثقفين الكبار على رأسهم صلحي الوادي ويوسف حنا وجورج طرابيشي.
عمل مخرجاً مساعداً مع رفيق الصبان في مسرحية «ليلة الملوك»، و«أنتيغون»، و«يوليوس قيصر». وبعد انتقاله إلى التلفزيون، لم تنقطع صلته بالمسرح.
شغل جبري مناصب كثيرة في التلفزيون السوري، من رئيس دائرة التمثيليات إلى رئيس دائرة المخرجين وكُرِّم في العديد من الدول العربية والأجنبية.
وعلى رغم ما قدمه إلى الدراما السورية، كان إلى ما قبل وفاته لا يعرف الرضا عن ذاته، فالرضا معناه الإفلاس حسب قوله.
يقول: «نحن جيل مدني مثقف، جاء من أصول عائلية عريقة». اختياره مهنة الإخراج كان له وقع غير محبّب في تلك الأيام، إذ كان يُنظر إليها كمهنة وضيعة: «اليوم، صارت العائلات تفتخر إن كان أحد أبنائها مخرجاً، نحن من جعلنا هذه المهنة محترمة، رسمنا ملامح الدراما السورية في بداياتها الأولى».
أعماله الكبيرة
قاربت أعمال جبري من خمسين مسلسلاً، وأفلام تلفزيونية درامية ووثائقية تجاوزت الثلاثين، وعدد من المسرحيات، فأنتج أوائل المسلسلات التاريخية والشامية والاجتماعية وغيرها، وقدم أول عمل بدوي للتلفزيون وهو «وضحة وابن عجلان».
من أعماله الدرامية «الدولاب» و«حكايا الليل» 1972 و«انتقام الزباء» 1974 و«حياتنا» 1980 و«طبول الحرية» 1981 و«بقايا وجوه» 1984 و«علاء الدين أبو الشامات» 1985 و«لكِ يا شام» 1989 و«السيرة العربية» 1992 و«طرائف أبي دلامة» 1993 و«القيد» 1996 و«عطر البحر» 1997 و«النصية» و«الطير» 1998 و«صور ضائعة» 2003 و«العودة القاتلة» 2004 و«أعيدوا صباحي» 2005 و«الحب كله» 2014.
بين الحقيقة والخيال
عام 2001، ورداً على سؤال حول غرق أعماله في المثالية، كما في «القيد»، واتهام أعمال أخرى بالرمزية المتعالية على المشاهد كما في «النصية» أجاب: «روعة الأداء الدرامي أن يكون بين الحقيقة والخيال، أنا أوافق على التطهر الوارد في «القيد»، لكن الضجة التي أحدثها العمل أغنتني عن كل نقد. أما في «النصية»، فكان هناك هذه الرمزية المخبأة حتى اللحظة الأخيرة. المجتمع السوري، وبالذات دمشق، قائم على الطبقة الوسطى، وسرقة النصية والعمل على دمارها سيؤدي إلى دمار المجتمع الشامي، وبالتالي، إلى جنون من سبب هذا الانهيار. هناك ضرورة يرميها العمل الفني ويجر المشاهد إلى التواصل معها. هذه اللعبة تضمن المشاركة، على العكس من الأعمال الإملائية التي كثرت هذه الأيام، كثيرة هي الأعمال التي تعطل العقل العربي وقليلة هي التي تدفعه إلى التفكير والاختيار.
العرض الرمضاني
قبل حوالي عشر سنوات، تحدث جبري عن مشكلة العرض الرمضاني لإحدى الصحف العربية قائلاً: «رغم كل الاستغاثات والنداءات التي نطلقها منذ سنوات، من أجل ألا يعرضونا لهذا الزخم الدرامي المرهق واللاإنساني في مشاهدة هذا الكم من الأعمال في وقت واحد، وقعنا في نفس الفخ… وأعتقد أن العامل الأساسي هو تجاري بحت، بسبب أن معظم المحطات تسدد ما عليها بمجرد عرض العمل، والعرض في رمضان له مردود إعلاني لا يفوت، ولا يعوض في باقي شهور السنة.
وأضاف: «وقد نتج عن التفكير بالعرض الرمضاني بهذه الكثافة، زيادة عدد حلقات المسلسلات واللجوء إلى ما يسمى (المطمطة) في سبيل الحصول على الثلاثين حلقة، وربما على ما يزيد من أجل الاستحواذ على اهتمام المشاهد خلال الشهر، ورضا المعلن في اجتذاب المشاهدين لمتابعة إعلاناته على هذه الشاشة أو تلك، أثناء عرض مسلسله أو مسلسلاته المفضلة».
وأردف: «ظاهرة تفصيل المسلسل في ثلاثين حلقة بدأت على استحياء أواخر السبعينيات من القرن الماضي في الدراما المصرية، لكنها تأخرت في سورية حتى نهاية الثمانينيات… إذ لم تكن لدينا الخبرة الكافية لصناعة مسلسلات الثلاثينيات، ولم تكن لدينا كوادر فنية كافية لتغطية هذا الكم الكبير للإنتاج الدرامي… إلا أن الأمر اختلف مع تحول رمضان إلى موسم أساسي للعرض، وهنا يمكن القول إن ثورة العرض الرمضاني بدأت في أوائل تسعينيات القرن العشرين وكان التفوق فيها للدراما المصرية، ثم أصبحت الدراما السورية منافساً قوياً وشرساً على الساحة العربية منذ موسم عام 2000.
وأكمل حديثه عن الأعمال الرمضانية قائلاً: «هناك أكثر من ظاهرة، أولها طغيان الإنتاج التجاري الذي يضع هم التسويق في رأس أولوياته، ومن دون التفكير بما يريد أن يقوله العمل بالضرورة، وهذا يجعل صناع العمل يفكرون في التنازلات قبل أن يفكروا فيما يريدون قوله وكيف، ويسعون بالتالي لإنتاج وإخراج أعمال على الموضة، يعني للعام الثالث على التوالي، ومنذ النجاح المدوي للجزء الثاني من مسلسل (باب الحارة) ونحن نرى أعمالاً تسعى لركوب الموضة، كل هذا يؤدي إلى الملل وإلى فقدان العمل الناجح لبريقه، والمفارقة أن (باب الحارة) نفسه بسبب هاجس تقليد الأعمال الأخرى له، وقع ضحية هذه الموضة، وصار يكتب من أجل المنافسة وليس من أجل قول شيء جديد ومهم.
ورأى أن الظاهرة الأخرى المزعجة أيضاً هي استهلاك الفنان السوري لنفسه من خلال المشاركة في أكثر من عمل أو عملين في كل موسم، كنا نقول دائماً إن الفن الدرامي التلفزيوني القائم على حلقات تعرض يومياً يحرق الممثل… فكيف إذا كان الممثل يشترك في أربعة أو خمسة مسلسلات في وقت واحد?
البيئة الشامية
بطبيعته كان المخرج الراحل مهتماً بصورة دمشق في الدراما، وعليه علق على أحد المسلسلات التي عرضت عام 2010: «بأسف شديد لم تدرس الوثيقة التاريخية بشكل جيد، إن مشاهد سوق الناس إلى (الأخد عسكر) لم تكن بهذه الديمقراطية واللطافة التي ظهرت عليها في البداية. كانت الأمة كلها تعتبر من عبيد السلطان، وقد ذكر لي والدي وجدي كيف كانت تساق الناس إلى حروب في أماكن بعيدة كحرب الروملي وشبه جزيرة القرم، ليموتوا في أرض لا ناقة لهم فيها ولا جمل… وعلى العموم يمكننا أن نرجع إلى مصادرنا التاريخية الموثوقة ككتاب (سقى الله حي الوردات) ورواية (بيت جدي) لألفة إدلبي، و(دمشق في مطلع القرن العشرين) لأحمد حلمي العلاف.
معلومات عامة
– المخرج الراحل متزوج من الفنانة التشكيلية المعروفة أسماء فيومي.
– هو أول مخرج دعي من أغلب المحطات العربية: الأردن، الإمارات، الكويت، لبنان، أثينا، لندن، قطر، السعودية.
– هو أول مدرّس في المعهد التابع لجامعة الدول العربية، وأول من درّس تقنيع الإذاعة والتلفزيون في المعهد العالي للفنون الدرامية.
جوائز وتكريمات
حصل المخرج الراحل على الكثير من الجوائز والتكريمات منها:
– شهادة تقدير من نقابة الفنانين 1993.
– شهادة تقدير من وزارة الإعلام بمناسبة عيد التلفزيون.
– شهادة تقدير من وزارة الإعلام بمناسبة الحركة التصحيحية.
– شهادة تقدير من مهرجان بغداد 1972 عن تمثيلية «الغرباء لا يشربون القهوة».
– كُرم في يوم وزارة الثقافة السورية عام 2017.
رثاء إلكتروني
حسن م يوسف: الإنسان الفذ الدمث، المخرج الفنان المبدع، السوري الوطني المخلص، غسان جبري سيبقى عطرك يضوع فينا ما بقينا، لك رحمة السماء ولذويك ومحبي فنك أحر العزاء.
سلاف فواخرجي: رحم الله المخرج السوري الكبير غسان جبري والعزاء لعائلته وأصدقائه ومحبيه.
شكران مرتجى: نزع القيد وحلق كالطير إلى السماء، المخرج الكبير والأستاذ غسان جبري، أحر التعازي للسيدة أسماء فيومي زوجته ولمحبيه وزملائه ولنا جميعاً وداعاً أيها السوري المعتق.
جيهان عبد العظيم: وداعاً غسان جبري، من أنقى وأرقى المخرجين الذين عملت معهم، لروحك الرحمة يا نقي.
وائل رمضان: أستاذنا غسان جبري، وداعاً.
مازن طه: وداعاً للصديق المخرج غسان جبري أحد أبرز رواد الدراما السورية والعربية، أتقدم بأحر عبارات العزاء لعائلته وللأسرة الفنية السورية.
محمد زهير رجب: المخرج الأستاذ غسان جبري أحد المؤسسين للدراما السورية يرحل بصمت.. وداعاً.. رحمك الله.