ثقافة وفن

عماد الدين النسيمي.. «إنك تحتاج كي ترى وجهي إلى عين تستطيع أن ترى الله»

| أحمد محمد السح

يجد المهتم أن مرحلة سيطرة المغول على المنطقة جعلتها معزولة تاريخياً وتكاد تكون تلك السنوات غير معروف خلالها محتوى حياة الناس اليومية وتفاصيلها إلا فيما ندر، ويرجع ذلك إلى استفحال الانقسام في المجتمع وسيطرة الأجنبي الأرعن، وخروج أمر سكان المنطقة من يدهم بعد انهيار بغداد، وتقاسم المدن والممالك بين المغول والترك والتتار بعدهم، والمماليك والصليبيين وتناحرهم الدائم، ولكننا حتى يومنا هذا نعيش مع أنساب وعائلات وأسماء عاشت في هذه المنطقة وانصهرت فيها، أنساب وكنى تركمانية ومغولية وآزرية وسواها، يعرف بعضهم جذورهم ويجهلها الكثيرون، السبب في هذه المقدمة الإطلالة على شخصية عماد الدين النسيمي هذا الشاعر الصوفي الذي ينتسب إلى جمهورية آذريبجان اليوم، لكنه تعلم وكتب واشتهر في حلب التي لم تكن خلال فترة حياته فيها إلا محطة للفكر، وفي الجانب الآخر كانت معقلاً للاضطرابات التي سادت المنطقة في عهد التتار، الفترة التي عاشها النسيمي في هذه المدينة إلى أن مات فيها.
يبدو النسيمي (1370- 1417م) الأقل شهرة بين أسماء رجالات الفكر الصوفي مع أنه يجيد ثلاث لغات وهو الذي ترك ديواناً كاملاً في الشعر بلغته الآزرية الأم، وهو حامل الدعوة الحروفية ومن مؤسسيها والتي زاوجت التصوف بالفلسفة، وبالـدين، وكان أميل إلى التشيع. وانتهى نهاية مأساوية ككل المتصوفة الذين عبروا ناسوت الجــسد إلى خــلود الفكــر والروح. قد يكون من مواليد تبريز أو شيراز أو موضع قرب بغداد، فثمة اختــلافٌ واضح بشأن مســـقط رأســه، فالمصادر العربية لا تلقي اهتماماً على منبته ولكنها تركز على مقتله، وفي ترجمات دارسيه باللغات الفارسية والآزرية يظهر الاختلاف حيث الاستدلال إلى أبياتَ شعرية قالها لا إلى مصدر تاريخي واضح.
كتب النسيمي الشعر بالفارسية والأزرية والعربية، فقد كان يتقنها ثلاثتها وترك ما يزيد على عشرة آلاف بيت في اللغة الأزرية وترك ما يقارب خمسة آلاف بيت باللغة الفارسية، أما شعره بالعربية فقد تعرض لأسباب مجهولة إلى الإتلاف والضياع ولم يصل منه إلا أجزاء يسيرة، وقد يرجح السبب إلى أن أعداءه وأعداء المحتل من أصحاب الحمية العربية اعتبروا أن وجوده شكل من الغزو الأجنبي فأتلفوا شعره من ضمن ما أتلفوه من مخلفات الاحتلال.
تأثر النسيمي بالحلاج، وبمسيرة التضحية التي قادها في سبيل الإنسان، ولذا فقد ابتعد عن الملوك وذوي الشأن واهتم بالناس البسطاء أصحاب المهن وعاش بينهم وجعل جوهر شعره مرتبطاً بهم ومن أشهر ما ترك عنه في الصوفية: (كنز اللـه المخبوء هو الإنسان) وبحكم أنه كان مطلعاً على ثلاث ثقافات: الآزرية بخيالها الخصب وثقافتها الشعبية التي تشربها، والفارسية بتراثها الشعري الصوفي كالخيام وحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي ونظامي وخاقاني وغيرهم، والثقافة العربية والشعر العربي الذي أعطاه السبك والصور الفريدة كما في شعر أبي تمام والمتنبي وابن الرومي وأبي العلاء والبحتري وأبي نواس، كل هذا جعل منه جاهزاً للانطلاق في عقيدته الخاصة التي أسسها فضل اللـه النعيمي الاسترابادي وهي الحروفية، وهو الذي تعرف على فضل اللـه النعيمي مصادفة وكان شاباً في شروان، واطلع على هذه العقيدة وصار من دعاتها، فسافر النسيمي إلى تبريز ومنها إلى بغداد، هذه الدعوة التي تميزت بجرأتها ودعواتها الإصلاحية الاجتماعية والسياسية؛ فقد عارض الحروفيون الحكم التيموري «تيمورلنك» وحاولوا اغتيال ابنه ففشلوا فقتل فضل اللـه وتزوج النسيمي ابنته الصغرى فاتحة الكتاب، واتجه إلى العثمانيين بنشر دعوته فيها، ويحرض العثمانيين على التتار، فبدأ ببث أفكاره تحت غطاء دعوة صوفية أخرى هي البكتاشية التي كانت منتشرة في بلاد الأناضول لكنه عندما قويت شوكته وأحبه الناس صرح بثقافته، فثار عليه رجال الدين وعدوا دعوته خروجاً عن الإسلام فسجن ثم أخلي سبيله، فغادر الأناضول إلى حلب التي كانت خاضعةً لحكم المماليك. تردد اسمه في حلب وتأثر به الشباب المثقف وكان يدعو إلى أفكاره سراً، ويصرح بحبه للحلاج الذي كان ثمة إجماع على محبته في حلب، ويروى أن أحد تلامذته المتهورين كان يتغنى بأشعاره في أحد الأسواق والتي تقول:
(إنك تحتاج كي ترى وجهي إلى عين تستطيع أن ترى الله كيف تستطيع العين الكليلة أن ترى وجه الله) فألقي القبض عليه فنسب الشاب الشعر إلى نفسه ليمنع الخطر عن النسيمي، فحكم على الشاب بالإعدام، ومع هذه الحادثة افتضح أمره وكانت نهايته مؤلمةً وهي السلخ حياً، وفي المنقول الكثير عن مقتله يُذكر أنه قال شعراً وهو تحت السلخ بلغ خمسمئة بيت، وسيرته اليوم في بلاده مخلدةٌ ويعبر عنه كبطلٍ شعبي، فما زالت دعوته الحروفية متداخلة في المذاهب الباطنية فالحروف هي أساس الدعوة الحروفية، حيث كان للحروف قيم عددية اعتمد عليها في حساب الجمّل الكبير والصغير المعروف عند إخوان الصفا وعامة الفئات الباطنية، حيث تعطى للأعداد والحروف قوى غامضة عبر التاريخ فالفيثاغورثيون اعتبروا الأرقام جوهر كل شيء وربطوا تناغمها بالموسيقا، والصوفيون يستندون إلى الحروف المنفصلة في السور القرآنية للاعتداد بأهميتها وأهمية تفاسيرهم، وهذا بحث متشعب عند النسيمي وسواه ممن أخذ عنهم وأخذوا عنه، فهو الرجل الذي أعطى فكان في رباعياته ومثنياته وأبياته شاعراً ساعياً إلى بناء الإنسان الكامل وشحن طاقته فهو الذي كتب:
(أيها الواعظ لا تحاول أن ترعبني بالغد
لأن الحكيم الذي يرى الغد في الحاضر لا يخافك
أيها القلب انبذ الوعود الجوفاء
ولنقضِ هذه الساعة في الملذات
أعطني حباً هذا اليوم، وخذ الغد لنفسك
ساعةٌ أقضيها مع حبيبي لن أبادلها بحقبةٍ كاملة)
أهدت الحكومة الآزرية تمثالاً للنسيمي إلى حلب سنة 1989 المدينة التي سلخ أمام قلعتها، ووضع في الجناح الإسلامي بمتحفها الوطني، وأزيح الستار عنه في احتفالٍ رسمي، واليوم ثمة ضرورةٌ في البحث والتقصي عن هذه الشخصية وهذا الشاعر، لأنه لا يقل أهمية عن أي من الشعراء الصوفيين الذين يتداول شعرهم ويتم الاهتمام بترجمة نتاجهم هو الشاعر الذي كان عصارة تلاقي ثلاث حضارات في هذا الشرق النابض بالأعاجيب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن