الشعر الفصيح في الأغنية بين الماضي والحاضر… أول جزئية تتحدث عن القصيدة الغنائية في زمن العمالقة بالأبيض والأسود
| سوسن صيداوي
أن تبقى الأغنية حيّة ومسموعة مهما بلغ الزمن من عُجالة وما يعتريه من تغيّرات مفروضة بحكم السرعة، وأن تبقى الأغنية محبوبة ومستقطبة للجميع وخاصة الشباب، هو ما تسعى إليه شركات الإنتاج والمغنين مع فريقهم من الشعراء والملحنين، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، بل المساعي في صناعة الأغنية الضاربة والناجحة، ما زالت تُبذل حثيثة من أجل تحقيق تلك الغاية على اختلاف التواريخ، وموضوعنا هنا هو الحديث عن انتقاء الشعر العربي الفصيح، وتلحينه وغنائه، لما تتمتع الكلمة فيه-بحسب رأي العمالقة-من زخم في المعنى، وقدرة على التعبير، مع تحدّي أشهر الملحنين في إبداع نغمات موسيقية ونوتات-منذ العصور القديمة-قادرة على احتواء الكلام الفصيح مهما كان بليغاً أو زجلاً. وفي موضوعنا نقدم لكم الجزئية الأولى من تمسّك عمالقة الزمن الجميل باللغة العربية الفصحى في أغانيهم التي قدموها، وهذه الأغاني لطالما أطربت أجدادنا في ذلك الزمن، وما زالت ناجحة هذه الأغنيات باحتكار قلوبنا ومشاعرنا.
فلقد اخترنا لكم قائمة لعدد من العمالقة بالقصائد والمعلّقات المغناة التي شاركونا بها من زمن الأبيض والأسود.
الأطلال.. أغداً ألقاك
على الرغم من استسهال الشعر العامي، وانتشاره في الأوساط أكثر من الشعر الفصيح، إلا أنه وفي كل التواريخ لابدّ من أن يكون هناك من هو مهتم جداً بالثقافة العربية، ومن منبره ساهم في نشرها، وهذا حقاً ما حصل مع أم كلثوم التي احتضنت القصيدة الفصحى، الأخيرة التي كان يشرف على تحريرها كبار الأدباء والكتّاب:سلامة موسى، أحمد حسن الزيات، أحمد الصاوى، وطه حسين وغيرهم، وبحسب النقاد فإن هذا الأمر هو من الأسباب الحقيقية التي جعلت أم كلثوم تتربع على عرش الأغنية في مصر والوطن العربي، مع منحها لقب كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي، ومن ثم واكبت النهضة العظيمة في اللغة العربية، واختارت عدداً من قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي-عشر قصائد- نذكر منها: الملك بين يديك، ولد الهدى، ريم على القاع، سلوا قلبي، سلوا كؤوس الطلا. وغنت من شعر أبو فراس الحمداني «أراك عصي الدمع»، ومن كثرة حب أم كلثوم لهذه القصيدة ولهذا الشاعر، فقد تغنت بها أكثر من مرة وبأكثر من لحن.
كما كان لأم كلثوم تجارب عديدة مع قصائد لكبار الشعراء العرب الذين ظهروا خلال العصر العباسي سواء الأول أم الثاني، من أمثال الشريف الرضي الذي غنت له جزءاً من قصيدته «أيها المجد الرائح»، وكذلك الشاعر العباسي المشهور العباس بن الأحنف الذي غنت له جزءاً من قصيدته «يا بعيد الدار». كما غنت أم كلثوم للشاعر صفي الدين الحلي قصيدة «مثل الغزال نظرة».
ويعتبر الشاعر الصعلوك ابن النطاح الحنفي الذي كان مشهوراً بلقب أبي وائل من الشعراء العرب العباسيين الذين غنت لهم سيدة القصيدة العربية أم كلثوم إحدى قصائد ديوانه المعروفة بعنوان «أكذب نفسي».
ولم يكن الشاعر عمر الخيام بعيداً عن صوت أم كلثوم حيث غنت له أشهر أشعاره وهي المعروفة «بالرباعيات» من ترجمة وصياغة الشاعر أحمد رامي، هذا وغنت للأخير قصائد عديدة بالفصحى نذكر منها: أقبل الليل وناداني حنيني، مصر التي في خاطري وفي فمي، وأيضاً لا يمكننا أن ننسى قصيدة الشاعر إبراهيم ناجي الشهيرة «الأطلال» والتي حملت بصمة صوت الست، كما اتجهت أم كلثوم إلى كبار الشعراء العرب، فغنت للشاعر الأمير عبد اللـه الفيصل رائعته «من أجل عينيك» و«ثورة الشك»، وأيضاً تعاملت مع الشاعر جورج جرداق وغنت له «أغداً ألقاك».
علّم الغزل
مرة سُئل الموسيقار محمد عبد الوهاب:من يتأمل تراثك الفني بنظرة شاملة، يلاحظ أنك أكثر ما تكون جدية ومثابرة وتألقاً وتعمّقاً عندما تقوم بتلحين نَص باللغة الفصحى…. لماذا؟. وكان رد عبد الوهاب بالموافقة على الملاحظة، وتفسيره يتراوح بين إبداء عشقه المبكر والدائم للغة الفصحى، وإيمانه الراسخ بأنها أكثر خلوداً من أي نص بالعامية، مهما بلغ هذا النص العامي من الجمال الفني ومما أغناه الموسيقار الرائد الجريء في التجديد: (ويلاه ما حيلتي، أتيت فألفيتها ساهرة.. للشيخ سلامة حجازي)، (أيها الراقدون.. لأحمد رامي)، (خدعوها بقولهم حسناء.. ويا ناعما رقدت جفونه.. ردت الروح على المضني معك.. أنا أنطونيو.. تلفتت ظبية الوادي… لأحمد شوقي)، (أراك عصي الدمع.. من ألحان عبد الوهاب وبصوت أم كلثوم).
ولكن عبد الوهاب أطلق جناحيه في آفاق التجدد والتطور بحرية كاملة، من خلال تلحينه وغنائه لقصيدتين يمكن اعتبارهما- إلى الآن- من الغرائب المعجزة في فن تلحين القصائد العربية وغنائها، وهما: (جفنه علم الغزل.. شعر: الأخطل الصغير)، و(سهرت منه الليالي.. شعر أحمد شوقي).
أضنيتني بالهجر
يرى النقاد وعلماء الموسيقا أن الموسيقار فريد الأطرش لمع نجمه لتفرّده من جهة، ولكونه لم يحذُ- ليضمن النجاح والنجومية- حذو محمد عبد الوهاب ومن بعده أم كلثوم حيث استأثرا بمعظم قصائد أحمد شوقي الصالحة للغناء، وخصوصاً أن الأطرش كان موعوداً بلقاء شاعر آخر هو بشارة الخوري أو الأخطل الصغير، الذي عوضه عن شوقي، والأخطل الصغير لم يكتب لفريد إلا ثلاثة أعمال، فأول عمل مشترك جمع بينهما كان قصيدة «أضنيتني بالهجر» في حدود سنة 1966، والثاني كان القصيدة الوطنية «وردة من دمنا» التي لُحنت أساسا لتغنيها السيدة أم كلثوم التي اعتذرت عنها، وبقيت محفوظة إلى أن قدمها فريد بعد معركة العبور في عام 1973، وآخر الأعمال المشتركة بين المبدعين كانت قصيدة «عش أنت» التي كتبها الشاعر لمحبوبته المنتمية لدين آخر، الأمر الذي أدى لاستبدال ألفاظ من القصيدة منها في البيت:
وحياة عينيك وهي عندي
مثلما الإيمان عندك.
على حين كان أصل البيت الشعري هو التالي:
وحياة عينيك وهي عندي
مثلما القرآن عندك.
وأخيراً هنا تجدر الإشارة إلى أن القصائد التي غناها فريد الأطرش للأخطل الصغير، تمّ تغيير عناوينها، ومن ذلك أن «أضنيتني بالهجر» عنوانها الأصلي الوارد في ديوان الشاعر هو «لو مرّ سيف بيننا»، وبالنسبة لأغنية «وردة من دمنا» أو«سائلي العلياء عني والزمان» جاء عنوانها الأصلي في الديوان «يا جهاداً صفق المجد له»، وبالنسبة لقصيدة «عش أنت» عنوانها الأصلي «إني مت بعدك».
يا مالكاً قلبي
«عشان تبقى في المنافسة، لازم تطور من نجاحك، ومتخافش تنافس المتميزين في مجالك، طالما إنك بتمتلك الإمكانات». هذه مقولة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي غنى تقريباً كل أنواع الغناء، من عاطفي، وطني، وديني. وفي الوقت الذي كان يتربع على عرش غناء القصائد الشعرية الفصيحة كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، بقي عبد الحليم مواظباً ومبدعاً ومتألقاً أيضاً في غناء اللون العاطفي والشعبي بالشعر العامي المحكي، لكنه لما قرر أن يغني القصيدة الشعرية الفصيحة، تمكّن من غناء القصائد الطويلة منها مع شعراء كبار مثل نزار قباني في «رسالة من تحت الماء، وقارئة الفنجان… من تأليف نزار قباني، وألحان محمد الموجي»، و«يا مالكا قلبي… كلمات الأمير عبد اللـه الفيصل آل سعود، لحن: محمد الموجي». فارضاً نفسه بين العمالقة، متألقاً بحسب إمكانياته ومحققاً عبارته.
لا تدخلي
امتلكت صوتاً قوياً جميلا له بصمته المميزة، مكّنها من أن تحقق لنفسها لونا غنائيا ميّزها عن مطربات جيلها. «إذا كانت أم كلثوم (كوكب الشرق) فإن فايزة أحمد التي تليها في الإجادة هي كروان الشرق»، هكذا وصفها المبدع كامل الشناوي، وحتى إن أم كلثوم قالت عنها «صوت فايزة هو الصوت النسائي الوحيد الذي أطرب له وأسمعه بنشوة، وهي الوحيدة التي ستخلفني على عرش الأغنية». وعن تعاملها مع الشعراء في غنائها للقصيدة الفصيحة، غنّت لنزار قباني«لا تدخلي» أو«رسالة من امرأة»، القصيدة شدت بها النجمة أحمد، بعد إجراء بعض التعديلات البسيطة عليها، بموافقة كاتبها قباني، نذكر لكم أنها استبدلت كلمة «ندل» في«لا تعتذر يا ندل ولا تتأسف» بـكلمة «أبدا»، وقالت «لا تعتذر أبدا ولا تتأسف»، وكذلك كلمة «يا دني» في «ماذا لو أنك يا دني قد أخبرتني» بـ«يا رفيق العمر» لتصبح العبارة: «ماذا لو أنك يا رفيق العمر قد أخبرتني». ومما غنته أيضا «أحبه كثيرا» كلمات فتحي سعيد.
قُل للمليحة
وما زال قلعة حلب صباح فخري يعتبر أن العلاقة بينه وبين القصيدة العربية الفصيحة هي علاقة مترابطة وقوية إلى أقصى الحدود، مؤكداً في أحد حواراته، وردا على سؤال بافتراض أن زمن أغنية القصيدة الفصحى قد ولى… قال: «إذاً في هذه الحالة سيكون انتهى الكلام والشعر، وبالتالي القصيدة، فالقصيدة موجودة لأنها دائماً هي الكلمة التي تعبر عن الإنسان، وكيف هو إنسان إن كان أخرس الكلمة.. إذاً هنا خلصت الكلمة وانتهى كل شيء». ويتابع «اللي بيدرسوا لغة عربية بيفهموا اللغة الفصحى، على حين اللهجات المحلية أغانيها جميلة ولغتها منتشرة في مكان محدود، وتبقى مساحة انتشارها أقل، فأنا أميل إلى اللغة العربية وتوطيد أواصرها ونشرها، وهذا يعني عندي بالدرجة الأولى كلمة القصيدة الفصحى».
إذاً عرف عن صباح فخري اعتزازه باللغة العربية وتدريبه المستمر عليها أثناء نشأته، وخلال مشواره الفني غنى ولحن قصائد لكبار الشعراء العرب: لأبي الطيب المتنبي- أبو فراس الحمَداني- مسكين الدارمي- كما غنى لابن الفارض والروّاس- ابن زيدون- ابن زهر الأندلسي- لسان الدين الخطيب. كما لحن وغنى لشعراء معاصرين مثل: فؤاد اليازجي- انطوان شعراوي- د. جلال الدهّان- د. عبد العزيز محي الدين الخوجه- عبد الباسط الصوفي- عبد الرحيم محمود- فيض اللـه الغادري-عبد الكريم الحيدري.
أسألك الرحيلا
على الرغم من أن الصوت بطبيعته يهمس غناءً، إلا أنه كان قادرا من دون أي شك على غناء القصيدة الفصحى بأجمل الأشعار، والكلام يُنسب لنجاة الصغيرة التي قدمت من القصائد الشعرية الفصحى لنا باقة منها: «ماذا أقول له»، وقصيدة «أيظن» و«أسألك الرحيلا» للشاعر نزار قباني، و«لا تكذبي» من شعر كامل الشناوي، و«لا تنتقد» للشاعرة سعاد الصباح.