ما إن باتت سورية قاب قوسين أو أدنى من التعافي والخلاص مما تعرضت له من عدوان «امبريالي أميركي ــ رجعي عربي» استهدف شعبها وأرضها وحضارتها، حتى اتجهت الولايات المتحدة الأميركية باتجاه فنزويلا في محاولة للقضاء على نظامها السياسي الوطني المعادي للامبريالية الأميركية، مختلقة على طريقتها المعهودة، جملة من البدع تتراوح بين إلصاق تهمة الديكتاتورية بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والمطالبة بإقصائه، والزعم بوجود نشاط لحزب اللـه وإيران في فنزويلا وامتلاك الحزب خلايا فيها من شأنها تهديد «الأمن الأميركي» ما دفع الرئيس مادورو للتأكيد أن بلاده قادرة على حماية نفسها بنفسها وليست بحاجة لمن يدافع عنها.
المعروف أصلاً مدى ذهاب الإدارات الأميركية بما فيها إدارة ترامب وراء اختلاق اتهامات وفبركة مزاعم وأكاذيب ضد البلدان التي لا تروق سياساتها وعلاقاتها الدولية لواشنطن التي تقف الآن وراء محاولة الانقلاب على الرئيس مادورو والتهيئة لتدخل عسكري أميركي في فنزويلا عبر الحدود الكولومبية، في وقت أيد فيه الرئيس مادورو فكرة الحوار الوطني التي طرحتها وشرعت فيها المكسيك والأورغواي وأيَّدتها موسكو عبر مبادرة جديدة طرحت من خلالها مقترحات مختلفة لتسهيل الحوار بين الحكومة والمعارضة وإيجاد السبل الكفيلة بالخروج من الوضع الراهن في البلاد وإنقاذها من خطر افتعال صراع داخلي قد يتطور إلى حرب أهلية تغذيها واشنطن وتعطيها ذريعة مصطنعة لتدخل عسكري أميركي لا يزال موضع سجال بين البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس الذي رفض توريط الولايات المتحدة الأميركية في مغامرة غير محسوبة النتائج ضد فنزويلا من جهة، وبين الإدارة الأميركية وحلفائها الأوروبيين وعدد من بلدان أميركا اللاتينية من جهة أخرى، حيث يعمل ترامب على نسف جميع محاولات الحوار، ما يعني أن البديل لديه يتمثل باللجوء إلى القوة العسكرية الغاشمة الرامية لوضع اليد الأميركية على كامل الثروات الفنزويلية، على الرغم مما يلوح من عدم توافر الظروف السياسية الداخلية الداعمة لخياره، حيث أعلن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي إليوت إنجل أن الكونغرس لن يدعم تدخلاً عسكرياً في فنزويلا، مؤكداً أن مواجهة جديدة سيخوضها ترامب مع الديمقراطيين في حال قرّر الذهاب باتجاه الخيار العسكري، معرباً عن القلق إزاء تهديد ترامب باستخدام القوة العسكرية، وتلميحاته إلى أن التدخل العسكري الأميركي ما زال خياراً غير أنه كان لموسكو رأي مخالف تماماً يؤكد أن التدخل العسكري الأميركي ليس خياراً، وهو موقف يجب أن تأخذه واشنطن بعين الاعتبار، لما له من مضامين وأبعاد حساسة.
على الرغم من ذلك، هاهو ترامب ونائبه مايك بنس، ومستشاره للأمن القومي جون بولتون، يهددون على رؤوس الأشهاد بغزو عسكري لفنزويلا تأكيداً للغطرسة الاستعمارية الأميركية المعادية للشعوب، حيث أعلن ترامب أن لديه على الدوام خططاً: «بي وسي ودي وإي وإف» في التعاطي مع الشأن الفنزويلي ولديه الخيارات كافة في حال تمسُّك مادورو بالسلطة، على حين قال بنس: «ليس هناك وقت للحوار بل هذا وقت الفعل وقد حان الوقت لإنهاء ديكتاتورية مادورو بشكل حاسم وللأبد»!
تهديدات وصلت إلى أعلى مستويات الغطرسة، عكستها درجة تمادي ترامب وكأنه القائد العام للقوات المسلحة الفنزويلية حيث أصدر أمراً لها بالانقلاب على مادورو الذي اعتبر أن أميركا إن اعتدت على بلاده فستلقى ما لاقته لدى غزوها فييتنام، داعياً إلى إجراء أضخم مناورات عسكرية في تاريخ البلاد متحدياً العدوانية الأميركية، والاستعداد لمواجهة أي مغامرة عسكرية أميركية على الأرض الفنزويلية، واصفاً تصرفات المحرضين على الانقلاب «بالجنون لأنهم أرادوا انقلاباً عسكرياً ففشلوا، وارتكبوا خطأً فادحاً حين استمعوا إلى طرف واحد فقط، ولم يستمعوا إلى البلاد بأسرها التي تريد الحوار والتفاهم والاحترام».
إنها الولايات المتحدة الأميركية، هي نفسها التي اعتادت العالم نَهَمِها المتوحش ومحاولاتها المستمرة الرامية للهيمنة على سيادة الشعوب ونهب ثرواتها الوطنية، حيث أعلن بولتون استعداد واشنطن للتحرك ضد إبرام صفقات مرتبطة بالذهب أو بالنفط الفنزويلي، ناصحاً أصحاب البنوك والوسطاء والعاملين في البورصة وشركات أخرى بالامتناع عن الاتجار بذهب فنزويلا ونفطها، في إطار وضع ترامب نصب عينيه العمل على امتلاك فنزويلا لأكبر احتياطي نفطي في العالم وثروة كبيرة لا تُقَدَّر من الذهب أثارت شهيته وأسالت لعابَه، وهو الذي جاء إلى البيت الأبيض مصوِّباً سهامه باتجاه نهب ثروات شعوب العالم بما فيها شعوب أميركا الجنوبية وشعوب حلفائه الأوروبيين الذين يتوجسون خطراً كبيراً من السياسة الرعناء التي يمارسها الرئيس الأميركي.
ويطلق ترامب التهديد تلو التهديد والوعيد تلو الوعيد بغزو فنزويلا، على غرار ما فعلته الولايات المتحدة ضد كوبا في العام1961خلال محاولتها الفاشلة الإطاحة بالرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو ونزولها في خليج الخنازير، وعلى غرار ما فعلته في التشيلي حين أقدمت عام 1973على الإطاحة بالرئيس سلفادور إيزابيلينو ألليندي غوسينز المنتخب ديمقراطياً وقتله في قصره الرئاسي عقب الكشف عن نيته العمل من أجل استعادة التشيلي سيادتها على ثرواتها الوطنية من الشركات الأميركية، وعلى غرار إطاحة واشنطن بالرئيس البنمي الجنرال مانويل أنطونيو نورييغا الذي سبق له أن كان هو نفسه عميلاً للمخابرات الأميركية الـ«سي آي إيه» عبر غزو عسكري أميركي للجزيرة البنمية في العام 1989، وعلى غرار وقوف واشنطن وراء الانقلاب المكشوف الذي وقع في البرازيل وأدى للإطاحة برئيسة البرازيل ديلما فانا روسيف والذي قاده إدواردو كونيا رئيس البرلمان أواخر العام 2015 في سيناريو مماثل للسيناريو الأميركي الحالي في فنزويلا والذي لم ير النور.
إنها الولايات المتحدة الأميركية نفسها التي تسعى الآن للإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وهي التي ربما تنزلق في رمال فنزويلا المتحركة إن هي تمادت في ممارساتها العدوانية، ما لم يعد ترامب حساباته ويتلافى مأزقاً، الشعب الأميركي بغنى عن تداعياته الخطيرة، وخاصة أن أميركا اللاتينية لم تعد الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية في ضوء الاصطفافات الدولية المستجدة، وبداية أفول واقع القطبية الأحادية، ما جعل الأزمة الفنزويلية ذات طابع دولي كشفت بوضوح جوانب من تلك الاصطفافات بين مؤيدين للمحاولة الانقلابية بتأثير أميركي في قراراتها الدولية، وبين القوى المدافعة عن حقوق الشعوب وسيادتها على بلدانها المستقلة، والواقفة إلى جانب الرئيس الشرعي نيكولاس مادورو والشعب الفنزويلي.