منذ أيام صدّق مجلس النواب الأميركي وبأغلبية ساحقة على مشروع قانون لسحب الجنود الأميركيين من اليمن، ورغم ثانوية الدور الأميركي المباشر في الحرب اليمنية، إلا أن الجهد العسكري الإماراتي السعودي يحظى بدعم لوجستي أميركي هائل، بما في ذلك مساهمة طيارين أميركيين في قيادة الطائرات التي تقصف اليمن، ومشاركة المقاولين وشركات الأمن الأميركية في حشد المرتزقة من كارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية للقتال بأمرة السعوديين والإماراتيين هناك.
لذلك يعتبر تصويت مجلس النواب الأميركي إشارة سياسيةً بالغة الوضوح للطرفين الرئيسيين اللذين يديران العدوان على اليمن، تفيد بانتهاء المهلة السياسية الأميركية المعطاة لهما لتحقيق إنجازات على أرض القتال، وذلك بعد تجاوز الكلفة السياسية والإنسانية للحرب والعوائد التي يمكن تحقيقها من خلالها.
لكن التصويت الأميركي على الانسحاب يأتي في سياق أكبر بكثير، سياقٌ يمكن أن نطلق عليه عصر «الخروج الأميركي» من منطقتي غرب ووسط آسيا، فهو يتزامن مع مفاوضات تديرها واشنطن بين الدوحة وإسلام آباد مع حركة طالبان، وافق خلالها الطرف الأميركي على انسحاب كامل من أفغانستان مقابل تعهد «طالبان» بعدم إيواء الجماعات الإرهابية، وهو تعهد مطاط يبدو أن الغرض منه فقط حفظ ماء الوجه الأميركي، فالحركة نفسها مصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، والمدهش أكثر أن طالبان لم تقبل بالتفاوض مع أميركا، إلا بعد أن وافقت واشنطن على شرطها باستبعاد حكومة كابول بقيادة، أشرف غاني، من التفاوض.
وغاني هو الرئيس الأفغاني الذي تعتبر الولايات المتحدة أنه جاء نتيجة عملية ديمقراطية، وهاهو اليوم يعترض على استبعاده من المفاوضات التي ستقرر مصير بلاده، من دون أن يلقي له أحد في واشنطن بالاً.
في الإطار نفسه كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية الأسبوع الماضي، عن تسارع وتيرة الانسحاب الأميركي من سورية، والذي من المفترض أن يكتمل في نيسان المقبل حسب تقرير الصحيفة، حيث يبدو أن ضغوط مراكز القوى التي اصطلح على تسميتها مراكز «الدولة العميقة في واشنطن» قد فشلت في إثناء الرئيس ترامب عن الوفاء بتعهده بسحب الجيش الأميركي من البلد الذي وصفه بأنه «رمال وموت».
بالتأكيد لا يمكن تفسير قرار الانسحاب الأميركي من منطقتنا، بارتفاع حرارة الطقس كنتيجة للاحتباس الحراري مثلاً، فالمشاريع العسكرية الأميركية واجهت مقاومة شعبية شرسة، وبدعم من كلتا الدولتين اللتين كانت خطط التوسع الأميركي تستهدفهما بعد العراق: إيران وسورية، ففي 25 تشرين الأول من عام 2018 نشر الجيش الأميركي تقريراً عن حرب العراق، أذاعت خلاصته لاحقاً قناة «سكاي نيوز» الأميركية، التقرير عبارة عن دراسة مكونة من 1300 صفحة، استناداً إلى أكثر من ألف وثيقة سرية تم الإفراج عنها، وبدأت عملية كتابة التقرير عام 2013، بتكليف رسمي من رئيس أركان الجيش آنذاك ريموند توماس أوديرنو.
لكن خروج التقرير للعلن تأخر كثيراً حتى عهد الجنرال الحالي مارك ميلي، فقد كان مقرراً نشره عام 2016، وحالت ضغوطاً دون ذلك، تجنباً لما سمي حينها نشر «الغسيل القذر».
يتحدث مؤلفا الدراسة، العقيدان، جو ريبورن و فرانك سوبتشاك، وكلاهما متقاعد في وقت اكتمال هذا المشروع عام 2018، عن تنسيق إيراني سوري لدعم الفصائل العراقية من الطائفتين السنية والشيعية، والتي قاتلت الجيش الأميركي في العراق لسنوات طويلة، حيث يظهر التقرير أن المراهنة الأميركية على التكنولوجيا المتقدمة للسيطرة على بلد كبير كالعراق، سقطت سقوطاً مدوياً، كما سقط معها تقاليد وتنظيرات أميركية أخرى بشأن الحروب الاستباقية، كما يقول العسكريان الأميركيان.
تتوالى قرارات الانسحاب العسكرية، من دون أن يشعر رجل الشارع العادي في منطقتنا والعالم، بما يدور حوله من تغيرات إستراتيجية، فالانكسار العسكري الأميركي، لا يرافقه تراجع مماثل على الساحتين الإعلامية والثقافية، حيث لا تزال أميركا تهيمن على وسائل تشكيل الوعي العربي والعالمي، من خلال سيطرتها على وسائل إعلام، وشبكة الإنترنت، ومواقع تواصل اجتماعي، وحتى إشعار آخر، لم يحرز خصومها تقدماً في هذه المجالات يناظر ما أحرزوه من إنجازات عسكرية في مواجهتها، فشركة «غوغل» وحدها تمتلك من الأقمار الصناعية ما لا تمتلكه دول العالم الأخرى مجتمعة بما فيها روسيا والصين، وخصوصاً أنه يتزامن مع تموضع قوى عسكرية بديلة، فمنذ انهيار الإمبراطورية العثمانية حتى عام 2015، عام التموضع العسكري الروسي في قلب المنطقة سورية، لم نشهد إقامة قواعد عسكرية لدول غير غربية في المنطقة، ويبدو أن الوجود الروسي لن يكون وحيداً، حيث استأجرت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، ويدور في الكواليس حديث عن تواجد عسكري صيني مستقبلاً في اليمن، كما دعا الجنرال الليبي خليفة حفتر الذي تمكن من فرض سيطرته على أغلب الأراضي الليبية، روسيا لإقامة قواعد في بلاده.