ثقافة وفن

دب بوشكين وأفعى مكرم

نصر الدين البحرة : 

قبل أن أقرأ رواية دوبروفسكي كنت أتصور أن الإقطاعيين ومالكي الأراضي يتشابهون في الكيفية ويختلفون في التفصيلات، ولكنها أكدت لي أنهم لا يتفقون في التفصيلات فحسب، بل إنهم يتشابهون تماماً «حذوك النعل بالنعل» كما يقول المثل العربي.
إن ألكسندر بوشكين الذي يعد بحق أباً للأدب الروسي الحديث، وعرض في روايته دوبروفسكي التي صدرت مترجمة إلى العربية في طشقند، نماذج من مجتمع الإقطاع تعود إلى الربع الأول من القرن قبل الماضي.. والحادثة التي أود الوقوف عندها في هذه الرواية ذكرتني بحادثة تماثلها جرت في أحد الأرياف السورية في سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، ولا أزعم أني شاهدتها بعيني ولكن صديقاً عزيزاً رواها لي قبل سنين طويلة.. كان هو نفسه قد رآها، فبقيت في الذاكرة.
بطل الحادثة في رواية بوشكين، هو النبيل الإقطاعي ترويكوروف، وكانت له طريقة مذهلة في إمتاع نفسه وإبهاجها وإدخال السعادة إلى قلبه، ذاك أن عنده دباً ضخماً، كان يتركه زمناً حتى يجوع ثم يحبسه في غرفة خاوية ويقيدونه بحبل مربوط إلى حلقة مثبتة في الحائط. وكان الحبل بطول الغرفة تقريباً، بحيث لا يظل في الغرفة مكان آمن من بطش الوحش المرعب، إلا الركن المقابل، وفي العادة كانوا يأتون بشخص لا علم له بالأمر إلى باب الغرفة، ثم يدفعونه فجأة عبر الباب إلى الدب، ثم يغلقون الباب ويتركون الضحية البائسة وجهاً لوجه مع وحش البراري الأشعث، وكان الضيف المسكين. ضيف الإقطاعي النبيل في قصره!. بعد أن تتمزق أطراف ردائه ويسيل الدم من جروحه، يجد بسرعة الركن الآمن، ولكنه أحياناً يضطر إلى الوقوف ثلاث ساعات كاملة ملتصقاً بالجدار، يرقب الوحش الهائج، قيد خطوتين منه، وهو يزأر ويثب ويشب على رجليه الخلفيتين، ثم ينقضّ محاولاً الوصول إليه، إن الأديب العظيم يعلق على هذه البشاعة الفظة بهذه الكلمات: «تلك هي صورة اللهو النبيل للإقطاعي الروسي»!
على أن بوشكين، لم يدع هذه الوحشية تمر هكذا من دون أن يسخر منها على طريقته المريرة: ذلك أن ترويكوروف حين أزمع أن يتسلى مع الضيف الجديد المفترض أنه مدرّس فرنسي استقدمه لتدريس أولاده، فشل تماماً. إذ إن الضيف أطلق النار على الدب.. وقتله قبل أن تتاح الفرصة لأحد أن يتسلى أو يضحك!
ربما أن بطل قصتي لا يزال حياً، وإن تكن أراضيه التي كان يمارس فيها هوايته البشعة قد وزعت على الفلاحين.
عوضاً عن الدب، كانت هناك أفعى هائلة، استقدمها ذلك الإقطاعي ولنسمه «مكرم» مثلاً وقد أمر أحد أتباعه بأن ينزع أنيابها السامة، ثم طلب أن تخبأ إلى وقت الحاجة، ووقت الحاجة يحين إذ يزوره ضيف عرف بحبه الحديث بالعربية الفصيحة، وعند الشدة يصيح قائلاً: النجدة.. النجدة. فيضحك صاحبنا إذ يسمع هذه الكلمة الفصيحة.. أي ضحك.. فيخلد إلى نوم مريح لا تعكره أحلام مزعجة..
ويسهر المضيف مع الضيف حتى وقت متأخر من الليل.. وحينئذ يقسم بأنه لابد نائم في بيته.. في غرفة الضيوف.. حيث تنتظره هناك تحت لحاف الفراش الذي يُفرش له على عجل، تلك الأفعى الضخمة.. فما إن يرفع اللحاف ويراها حتى يصيح: النجدة.. ولا يفلح أحد في إيقاف ضحكات مضيفه!
وذات مرة جاءه واحد من فلاحيه، حاملاً في سلة عناقيد من بواكير العنب.. مسروراً معتقداً أن الإقطاعي.. لاشك مكرمه..
كان لدى الرجل كلب ضخم ربما هو أكثر شراسة ووحشية من دب ترويكوروف، دعاه بارود.. فما إن يدنو منه الفلاح ويسلمه سلة العنب، حتى ينادي بارود! ويشير إليه بأن يهاجم ذلك الفلاح المنكود الحظ، فيمزق ثيابه، وينهش ما أمكنه منه.. فإذا آنس مكرم أنه اكتفى ضحكاً وتسلية أمر الكلب بأن يبتعد.
إن الضيف في قصة بوشكين انتقم لنفسه بيده.. وانتهى الأمر، غير أن الضيف في قصتنا لم يعرف كيف ينتقم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن