من دفتر الوطن

كينا الطفولة والشيخوخة

| زياد حيدر

كنت عائداً أوائل شهر أيلول من المدرسة، تشغلني قضايا من تلك التي تشغل فتى في الخامسة عشرة.
هل استلمت حبيبتي رسالتي، وهل سترد عليها، هل أعجبها الشعر الذي انتقيته لابن زيدون، في وصف حبيبته الأندلسية ولادة؟
هل من الضروري كتابة وظيفة الرياضيات اليوم أم أنتظر للغد؟ أليس موعد المدرسة مبكراً، فلم ينته الصيف بعد؟ هل هذه البزة العسكرية لازمة، ولاسيما في هذا الحر؟ هل أسلك الطريق الطويل أم القصير؟ هل انتهت ساعات التقنين الصباحي أم لا؟ ماذا طبخت أمي اليوم؟ هل قرأت حبيبتي الرسالة يا ترى؟
على شرفة المنزل وقف أبي وبجانبه رجل من رجال القرية، يتحادثان. الرجل من أولئك الذين يؤدون خدمات تحتاج بنية قوية، وهو بساعديه المفتولتين بدا لي مستعداً لتقديم الخدمة المطلوبة.
كانا يعاينان كل بطريقته الجذع السميك الواسع لشجرة الكينا.
شجرة الكينا، تكبرني بسنوات، زرعها والدي مع مجموعة من أصدقائه كنصب مشترك لصداقات بدت وقتها دائمة.
مات بعضهم، وسافر آخرون، بردت علاقات، وتشتتت أخرى. لكن الشجرة بقيت هنا تنمو من دون تحفظ.
قالت لي أختي بحزن: ربما لهذا سيقطعونها؟
ماذا؟
سيقطعونها!!
الشجرة بارتفاع خمسة عشر متراً، ويمكن رؤيتها من الجزر الصخرية البحرية المقابلة لشاطئنا، يعلو تاجها كل بيوت القرية، وكل محاولات التفوق على أغصانها المرتفعة فشلت.
في الشتاء تميل مع الريح، وتصدر أنيناً عميقاً، فتعزز وحشة العتمة، وتشعل خيالاتنا من دون خوف.
في الربيع تهتز أوراقها كمجموعة أجراس خفية، فتبهجنا، علامات أفول الشتاء.
وفي الخريف تصفر تلك الأوراق، وتميل لاحقاً للحمرة، فتروق ألوانها للعين، فيحلو للمارين التقاط الصور بجانبها.
صيفاً، تزورنا البومة الوحيدة في كل تلك المنطقة، فتعشش بين أغصانها السميكة العالية طوال شهر آب، تنعق البومة فتؤنس ليالينا، ويسرد أحد العجائز أن شهر آب لا يكتمل من دون هذا الصوت، مضيفاً: إن الجهلة فقط هم من يتشاءمون من حضور هذا الطائر المخلص، تصبح الشجرة في ليالي الصيف مزاراً مثيراً للأطفال.
«جذور الشجرة تمتد تحت البيت أفقياً» وضح أبي، «وباتت تهدد بنيانه». قال بحزم وهو يشير للتشققات المنتشرة في الحيطان، والجدران.
«أليس من حلول وسطى صرخت؟ « لكن الرجل باللحية الكثة، وبالزندين الصلبين والنظرة القاسية، تدخل بصوت خشن «ما من حلول وسطى حين يتهدد أساس بيتك».
قارنت بين بيتنا والشجرة التي بدت لي تبتسم باطمئنان.
بيتنا واسع، بغرف جميلة مرتبة، وتراسات كبيرة، لها إطلالات بحرية، وكراسي كثيرة مصطفة بجانب طاولات مجهزة للزوار دوماً، بجانبها يقف مشوى لحم طويل مستعداً لسهرات الصيف.
أما الشجرة فوحيدة، هنا، جمالها بجمال الفصول، وتتابع الأيام.
أليس من حلول وسطى؟ تكرر صدى شكواي داخلي، لكن الرجلين انصرفا عن الفتى المراهق، كأنما ظهراهما اللذان استدارا لمواجهتي، قالا، فلندعه يتعلم بالطريقة الصعبة.
حددا موعداً لقطعها، في الخامس عشر من أيلول. بدا لي مظلماً كيوم عيد ميلادي، قبل أيام، سبقت.
ظهر ذلك اليوم مشيت بعيداً حتى تخطيت حدود القرية.
لم أكن حزيناً على الشجرة، ولا غاضباً من أبي، ولا من الحطاب القاسي القلب، حصل أمر أخطر.
كنت خائفاً، وحائراً. فذلك اليوم، استيقظت صباحاً لأجد فجأة خصلة شعر بيضاء متموضعة بثبات وللأبد في مفرق شعر رأسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن